عبد الله بن أُنيس الجُهَني
الصحابي الفدائي الداعية
نشأته وإسلامه:
نشأ عبد الله بن أنيس في يثرب، حليفاً لبني سلمة، حتى غدا كأنه أحد
أبنائها، وقد أكرمه الله بالسبق في الإسلام،
فكان ممن آمن على أيدي من بايعوا رسول الله ( ص ) لبيعة العقبة الأولى،
وسرعان ما انضم
إلى صفوف الدعاة، فأخذ يدعو الناس وينصحهم. حتى إذا جاء موسم الحج،
خرج مع قومه
إلى مكة، وبايع رسول الله ( ص ) في بيعة العقبة الثانية على نصرة
الله ونصرة رسوله...
وما إن عاد إلى يثرب حتى بدأ بالعمل... فخرج مع بعض أصحابه
إلى أصنام بني سلمة وحطموها...
وعندما رأى بنو سلمة أوثانهم محطمة خافوا أن تنتقم
منهم!. لكن الأيام مرَّت بسلام،
فأدركوا أن هذه الأوثان لا تضر ولا تنفع، فأخذوا
يدخلون في دين الله أفواجاً...
وفي شهر المحرم من السنة الرابعة للهجرة بلغ مسامعَ المسلمين أن خالد بن
سفيان
زعيم هُذيل يُعِدّ العدّة لغزو المدينة المنورة، ويجمع الجموع في مكان قريب
من المدينة يدعى "نخلة"،
ورأى رسول الله ( ص ) أن هذه القبائل تجتمع حول خالد بن سفيان، فإذا قُتل
خالد تفرق الجمع وانتهى الأمر،
وفكر فيمن ينتدبه لهذه المهمة، فاستدعى عبد الله بن
أُنَيْس وأجلسه بجانبه
وقال له: إنه قد بلغني أن ابن سفيان يجمع لي الناس ليغزوني،
وهو بنخلة، فأْتِهِ فاقتُلْه.
قال: صِفْه لي يا رسول الله حتى أعرفه! وأدرك الجندي
أمر قائده، لكن كيف الوصول إلى خالد بن سفيان
والاقتراب منه لقتله؟! قال عبد الله:
يا رسول الله لابد لي في مهمتي هذه أن أقول
أي أن أخدع الرجل ببعض الكلام حتى
أتمكّنَ منه فأشار له رسول الله ( ص ( أن يقول ما بدا له فالحرب خدعة.
وانطلق عبد الله إلى أداء مهمته حتى وصل "نخلة" فوجد خالد بن
سفيان مع بعض نسائه يختار لهن منزلاً.
قال: فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله
من القشعريرة، فأقبلت نحوه فقال: مَنِ الرجل؟
قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا
الرجل فجاءك لهذا! قال: أجلْ، أنا في ذلك،
قال: فمشيت معه شيئاً حتى إذا أمكنني
حملتُ عليه السيف حتى قتلتُه...
فلما قدمتُ على رسول الله ( ص ) فرآني قال: "أفلح الوجه".
قلت: قتلتُه يا رسول الله،
قال: صدقت، وأعطاني عصاه وقال: "أمسك
هذه عندك يا عبد الله بن أنيس"
فقلت: يا رسول الله لِمَ أعطيتني هذه
العصا ؟ قال : "آيةٌ بيني وبينك يوم القيامة".
فقرنها عبد الله بسيفه، فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضُمَّت معه في
كفنه.
عملية جريئة:
ومنذ هاجر النبي ( ص ) إلى المدينة المنورة، ووضع اللبنة
الأولى للدولة الإسلامية...
ما لبث اليهود أن كشّروا عن أنيابهم وأخذوا يكيدون
للإسلام وأهله،
وكان من أشد الناس عدواة لله ورسوله ملك يهود: أبو رافع سلاّم بن
أبي الحُقِيق أخو بني النضير،
فقد أخذ يحرض على قتل النبي r، ويحثّ الأعراب على غزو المدينة ونهبها،
ويوفد الوفود
للقبائل يدعوها للتحالف مع يهود للانقضاض على المسلمين...
فرأى رسول الله ( ص ) أن أبا رافع يستحق الموت جزاء ما
يفعل، فانتدب جماعة من أصحابه
فيهم عبد الله بن أُنيس، وجعل عبد الله بن عَتيك
رئيساً لهم لأنه يتقن لغة اليهود...
وانطلقت المجموعة الفدائية إلى هدفها ليلة النصف من جمادى الآخرة سنة ست
للهجرة...
فكانوا يسيرون ليلاً ويكمنون نهاراً كي لا يكتشف أمرهم حتى وصلوا خيبر،
فكمنوا حتى جنّ عليهم الليل
واستطاع ابن عتيك أن يدبّر أمر دخولهم إلى حصن اليهود
دون أن يشعر بهم أحد،
فانتظروا حتى نام من في الحصن وهدأت الأصوات ... ثم تقدّموا
حتى وصلوا غرفة سلاّم بن أبي الحقيق
، فانقضّوا عليه في فراشه وتناوشوه بسيوفهم في
الظلام، فأصابوه لكنه لم يمت،
فما كان من عبد الله بن أنيس إلا أن تقدم بثبات
وأنفذ السيف في أحشائه حتى قتله
وأخذت زوجة ابن أبي الحُقيق تصرخ فهُرع مَن في
الحصن إليها...
وأسرع المجاهدون بالنزول فانزلق ابن عتيك وكُسرت رجله، فحمله عبد
الله بن أنيس فخرج به من الحصن.
وافتقد عبد الله بن أنيس قوسه، وظن أنها سقطت منه في الحصن، فعاد ودخل
واختلط برجال الحصن
وتظاهر أنه يبحث عن القاتل مثلهم... حتى وجد قوسه فأخذها
وانسلّ خارجاً بسلام!.
وعاد الفدائيون إلى المدينة ، فلما رآهم رسول الله ( ص ) ابتسم وقال: أفْلَحَتِ الوجوه!
فقالوا: أفلح
وجهُك يا رسول الله... وتحلّق الصحابة حولهم يستمعون لما كان منهم
وتنازع
الفدائيون فيمن قتل سلاّم بن أبي الحقيق، فكل يقول: سيفي هو الذي قتله
فطلب رسول
الله ( ص ) سيوفهم، فاستعرضها ثم قال: لَسيفُ
عبد الله بن أنيس هو الذي قتله ! أرى فيه أثر الطعام !.
عاقبة الغدر:
واجتمع اليهود بعد قتل مليكهم، واختاروا لهم ملكاً جديداً هو اليُسير بن
رزام
وكان معروفاً بالخديعة والمكر... وسار اليُسير على خطى من سبقه يحرض الأعراب
والقبائل المجاورة على إعداد العدة لقتال المسلمين ويبذل المال لهم لهذه الغاية
حتى وصلت أخباره إلى المدينة، فشاور النبي ( ص ) أصحابه في أمره فقرروا
أن يرسلوا إليه وفداً لإقناعه
بالكف عن التآمر على المسلمين، ليجنّب قومه الحرب
فخرج عبد الله بن رواحة على رأس
وفد، فيه عبد الله بن أنيس، حتى وصلوا خيبر
فتحدثوا إلى اليُسير بن رزام، وأقنعوه
أن يأتي معهم إلى المدينة ليأخذ الأمان لقومه
من رسول الله( ص ).. فاختار اليُسير مجموعة من شباب يهود وخرج معهم
بصحبة المسلمين إلى المدينة
وأركب كل واحد من المسلمين أحد اليهود معه على
راحلته، فكان اليُسير رديف عبد الله بن أنيس... وسار الركب نحو المدينة.
وفي الطريق أخذ اليُسير يفكر في أمره مع المسلمين، فحدّثته نفسه بالغدر،
فقرر أن يقتُل عبد الله بن أنيس، فيقوم مرافقوه بقتل من معهم من المسلمين
ثم
يعودون إلى خيبر! فهجم بسرعة على سيف عبد الله بن أنيس يريد أن ينتزعه منه
وهو
يصيح: يالثارات اليهود! لكن عبد الله بن أنيس كان حذراً فسلّ سيفه
وضرب به ساق عدو
الله، فما كان من اليُسير إلا أن ضربه بعمود من خشب فشدخ رأسه
وتمالك ابن أنيس
على نفسه وكرّ على الغادر فقتله، وبادر بقية اليهود، كلٌّ يريد أن يفتك
بصاحبه من
المسلمين، فأجهز المسلمون عليهم، ولم ينجُ منهم إلا رجل واحد فرّ عائداً إلى خيبر
وعاد المسلمون إلى مدينة رسول الله ( ص ) يحدثونه عن غدر اليهود بهم، وما
ذاقوه نتيجة خداعهم !
إنها فراسة النبي ( ص ) في أصحابه، وتكليف كل منهم بما هو
أهل له ،
وإنها الجندية العالية والحصافة والشجاعة من عبد الله بن أنيس، وإنه
التكريم لشأن الجهاد في سبيل الله.
}من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من
ينتظر، وما بدّلوا تبديل اً{