لم يعش رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمعزلٍ عن حياة عصره الاجتماعية والفكرية، بل كان شخصية مرموقة
ومميّزة في المجتمع المكِّي يحظى باحترام الجميع وإعجابهم لصدقه وأمانته وحسن خلقه
فضلاً عن عراقة محتده وأصله الرفيع، وقد زادت مكانته الاجتماعية في مكة بعد إجماع
كبراء قريش على اختياره لوضع الحجر الأسود في الكعبة المشرفة عند إعادة بنائها.
وكان أصغر حنفاء عصره سناً، فقد هداه الله بالفطرة السليمة التي جعلته يرفض ما كان
يعكف عليه قومه من عبادة الأوثان وغيرها من السلوك الذي لا يليق بإنسانية الإنسان.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على وعي بتاريخ انحراف أُمّته عن دين إبراهيم
الخليل عليه السلام، وما أحدثته قبيلة جرهم بمكة بعد تغلُّبها على بني إسماعيل بن
إبراهيم وما أحدثته من فساد وظلم في حق الحرم وأهله حتى سلَّط الله عليها قبيلة
خزاعة فانتزعت منها السُّلطة على مكة، وفي هذا العهد ظهر عمرو بن لحي الخزاعي الذي
غيَّر دين إبراهيم وأدخل عبادة الأصنام لأول مرة إلى جزيرة العرب، ومنذ ذلك العهد
دخلت مكة في غياهب الوثنية والشرك.
ورغم أنّ السُّلطة في
مكة زالت بعد ذلك من يد خزاعة على يد قصي بن كلاب جد النبي صلى الله عليه وسلم
وعادت لبني إسماعيل عليه السلام، إلاّ أنّ دين إبراهيم عليه السلام كان قد اندثر
ولم يعد أحد يبحث عنه إلاّ قلّة من عقلاء مكة ومفكريها أطلق عليهم لقب (الحنفاء)
نسبة إلى دين إبراهيم عليه السلام. وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم معظم
هؤلاء الحنفاء والتقى ببعضهم وسمع عن بعضهم الآخر، وكان أكثرهم نقاءً في عقيدته
بحكم توجيه العناية الإلهية له وإعداد ربه له لحمل رسالة آخر الأنبياء.
ومن هؤلاء الحنفاء ورقة
بن نوفل ابن عم السيدة خديجة وزيد بن عمرو بن نفيل عم عمر بن الخطاب وقس بن ساعدة
الأيادي خطيب عكاظ العظيم والشاعر أمية بن أبي الصلت والشاعر لبيد بن ربيعة العامري
أحد شعراء المعلقات وعبيدالله بن جحش بن رئاب وعثمان بن الحويرث بن أسد بن عبدالعزى
واكثم بن صيفي حكيم العرب وداعية الخير وزهير بن أبي سلمى فخر شعراء العرب آنذاك.
ولا شكّ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم بالاجتماع الشهير الذي عقده أربعة
من هؤلاء الحنفاء في يوم عيد سنوي لقريش تجتمع فيه على صنم من أصنامها تعكف عليه
وتطوف به، فخلص هؤلاء الأربعة نجياً وهم ورقة بن نوفل وعبيدالله بن جحش وعثمان بن
الحويرث وزيد بن عمرو بن نفيل، واتفقوا على أنّ قومهم في ضلال مبين، فما صنم يطوفون
به لا يسمع ولا يبصر ولا يضر ولا ينفع، وتعاهدوا على التفرُّق في البلدان بحثاً عن
تعاليم دين إبراهيم عليه السلام، فلا يعبدون إلاّ الله رب العالمين، وسنأتي على
تفاصيل قصة كل واحد منهم، وما جاء عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأول هؤلاء الحنفاء من
حيث عمق الصلة بالرسول صلى الله عليه وسلم هو ورقة بن نوفل، وهو أول من بشَّر
السيدة خديجة بنبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم بعدما أخبرته بما حدث أثناء سفر رسول
الله صلى الله عليه وسلم مع ميسرة بتجارتها إلى الشام، وما كان من أمر السحابة التي
كانت تظله حتى دخل مكة، قال لها: (لئن كان هذا حقاً يا خديجة، فإنّ محمداً لنبي هذه
الأُمّة، وقد عرفت أنّه كائن لهذه الأُمّة نبي يُنتظر هذا زمانه!) (الروض الأنف ج2،
161). ولم يمض شهر أو أقل أو أكثر قليلاً على هذا الكلام إلاّ وتزوجت السيدة خديجة
برسول الله صلى الله عليه وسلم. ولورقة بن نوفل قصيدة في هذا يبدو من سياقها أنّها
نُظِّمت بعد هذا الحدث لما فيه من ذكر لسفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارة
خديجة، واستبشار بنبوّته ووعد باتباعه، وفيها يقول بعاطفة جياشة مخاطباً السيدة
خديجة (حسب رواية ابن إسحاق عن يونس) وهي من أجمل شعره وأصدقه:
أَتُبْكِرُ أم أنت
الْعَشِيَّةَ رائحُ
وفي الصدر من
إضْمَارِكَ الحزنَ قادح
لِفُرْقةِ قومٍ لا أحب
فِرَاقَهُمْ
كأنك عنهم بعد يومين
نازح
وأخبارِ صِدْقٍ
خَبَّرَت عن محمد
يخبرها عنه إذا غاب
ناصح
فتاك الذي وجهت يا خيرَ
حُرَّةٍ
بِغَوْرٍ
وبالنَّجْدَيْنِ حيث الصَّحاصِحُ
إلى سُوقِ بُصْرَى في
الركاب التي غدت
وَهُنَّ من الأحمال
قُعْصٌ دَوَالح
فخبَّرنا عن كلِّ خير
بِعلمه
وللحق أبوابٌ لَهُنَّ
مفاتح
بأن ابنَ عبدِالله
أحمدَ مُرْسَلٌ
إلى كلِّ مَنْ ضُمَّتْ
عليه الأباطح
وظنِّي به أنْ سوف
يُبْعَث صادقاً
كما أُرْسِلَ العبدان
هُودٌ وصالح
وموسى وإبراهيمُ حتى
يُرى له
بهاءٌ ومنشورٌ من الذكر
واضح
ويتبعه حَيَّا لُؤيٍّ
جماعة
شيابُهم والأشْيَبُون
الْجَحَاجحُ
فإن أبْقَ حتى يُدركَ
الناس دَهرُه
فإني به مُسْتَبْشرُ
الْود فارح
وإلاَّ فإني يا خديجة -
فاعلمي
عن أرضِك في الأرض
العريضة سائح
وليس صحيحاً ما زعمه
بعض المؤرِّخين من أنّ ورقة بن نوفل اعتنق النصرانية، وقد حقق هذه الفكرة وأثبت
نفيها الأستاذ الدكتور عويد بن عياد الحكيلي المطرفي في كتابه القيِّم (ورقة بن
نوفل في بطنان الجنة)، فالحقيقة أنّ ورقة بن نوفل كان على علم واطلاع واسع يكتب
الأديان الأخرى، ولما لم يجد عقيدة التوحيد الخالصة النقية من شوائب الشرك
والانحراف لدى اليهود والنصارى ظل ينتظر ظهور نبي على دين إبراهيم، وظل يدعو إلى
التوحيد النقي، ويقول:
لقد نصحتُ لأقوام،
وقلتُ لهم:
أنا النذيرُ، فلا
يَغْرُرْكم أَحَدُ
لا تَعْبُدُنَّ إلهاً
غيرَ خالِقكم
فإن دَعَوْكُمْ فقولوا:
بيننا جَدَدُ
سُبْحَانَ ذي العرشِ
سُبْحاناً يدوم له
وقبلنا سَبَّحَ
الجْوُدِيُّ والْجُمُدُ
مُسَخَّر كلُّ ما تحت
السماءِ له
لا ينبغي أن يُناوي
مُلْكَه أحدُ
لا شَيْء مما ترى تبقى
بشاشتُهُ
يَبْقَى الإلهُ ويُودِي
المالُ والْوَلَدُ
فهل كان ورقة أول
المؤمنين من الرجال برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولماذا لم يذكر له التاريخ ذلك
ما دام قد أدرك النبوّة؟!