تختلف الأشكال والأنواع والجوهر واحد
الخبز طعم الحياة
الخبز هو رغيف الحياة، فرغم أنه مرادف للحياة في كل الحضارات تقريباً مع اختلاف في شكله ولونه ومذاقه من مكان إلى آخر، يبقى رمزاً واحداً في التراث والتقاليد الاجتماعية منذ آلاف السنين . وللخبز قصة تعود إلى ما يقرب من عشرة آلاف سنة مضت حين أكل الإنسان القديم أول خبز شبيه بالذي نعرفه اليوم وينتج عن طحن القمح ومزج دقيقه بالماء مع إضافة الملح (حسب المذاق) ثم تحميصه على النار .
أينما توجهنا في بقاع العالم، نجد أن لكل خبز شكله ونوع الحبوب المصنوع منها وطريقة مميزة في تحضيره . ومهما اختلف الخبز، شكلاً ومضموناً، فإنه يبقى الغذاء الرئيسي للإنسان وشأناً حياتياً حاضراً على الدوام . وقد يصبح هذا الشأن هماً في ظروف كثيرة، الأمر الذي يرسخ مكانته بشكل كبير في وجدان الإنسان واهتماماته . وعلاقة الخبز بالحياة على درجة كبيرة من العمق جعلت الشعوب البدائية تنسج حوله أسطورة خرافية تشبه العجين برحم المرأة الحامل الذي يتعاظم كبراً مع مرور الأيام إلى أن ينضج فيعطي الحياة، مثل قطعة العجين التي تنتفخ بالخميرة إلى أن تصبح جاهزة لتخبز وتؤكل . وتتجسد هذه الأسطورة في بعض التقاليد القديمة عند الإيطاليات اللواتي كنّ يقفن أمام المعجن ويقلدن أوجاع الولادة وانقباضات الرحم المؤلمة أملاً في أن يرتفع العجين ويتخمر .
وحمل الخبز في البلاد العربية اسم “العيش” دلالة على أن الحياة تتمحور حوله وتتعلق به وجاء بأصناف عديدة وأسماء مختلفة وفق المناطق التي يصنع فيها كالعيش البلدي، والتنور، والصاج، والخبز المحمر، ناهيك عن الأنواع الأجنبية التي راج تصنيفها في كل مكان مثل التوست والباغيت والبريوش .
كان إنسان ما قبل التاريخ يصنع الخبز المفرود بخلط الجريش بالماء ثم خبز العجين الناتج فوق حجارة مسخنة من قبل . ويعتقد المؤرخون أن قدماء المصريين تعلموا صنع خميرة الخبز في عام 2600 ق .م تقريباً، وكان الدقيق يخلط بالخميرة والحليب والتوابل والملح، ثم يعجن بالأيدي ويقطع ويطهى في مقلاة . أما الحضارتان اليونانية والرومانية فأسهمتا إسهاماً كبيراً في تطور صناعة الخبز . ففي عام 168 ق .م، وضعت روما دليلاً خاصاً للخبازين شكل قاعدة تحويل صناعة الخبز إلى اختصاص مستقل عن باقي الأعمال وافتتح معهد للخبازين كان تلاميذه يمنعون من الانسحاب منه والتحول إلى مهنة أخرى إذ اعتبر هؤلاء الحرفيون الأحرار الوحيدين في روما، فيما كان عمال الحرف الأخرى كلهم عبيداً .
وكان أعضاء المعهد وتلاميذه يمنعون أيضاً من الاختلاط مع الممثلين ومؤدي الألعاب البهلوانية تفادياً لالتقاط أية عدوى من عامة الناس .
وكان الفيلسوف اليوناني أفلاطون أشار منذ عام 400 ق .م إلى أن الدولة النموذجية هي تلك التي تجعل الإنسان يعيش حياة صحية ضمن بيئة نظيفة فيأكل خبزه المصنوع من القمح الكامل والمزروع محلياً، إلا أن دولاً كثيرة لم تأخذ قديماً بهذه الحكمة وأدى العمل بعكسها إلى أحداث كبيرة غيرت مجرى التاريخ .
الطبقية
منذ عصر الفراعنة، دخل الخبز في صميم التمييز الطبقي والاجتماعي، إذ كان في مصر الفرعونية ينقسم إلى ثلاثة أصناف: خبز دقيق القمح الذي كان يقتصر على الأغنياء، وخبز دقيق الشعير للطبقة المتوسطة، والخبز الأسمر كان للطبقة الفقيرة وكان يصنع من دقيق من نوع الحبوب البرية . واستمر الخبز معلماً من معالم الانقسامات الطبقية في معظم المجتمعات حتى القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً .
وفي الحضارتين اليونانية والرومانية، كان الخبز خاصاً بالطبقات الارستقراطية وأصدر أحد قياصرة روما قراراً يقضي بسجن كل من يقدم خبزاً أسمر اللون إلى نبيل روماني، أما امتلاك الفقراء للخبز الأبيض فكان جريمة قد تؤدي إلى الإعدام . وخلال القرون الوسطى ظل الخبز موضع انقسام في أوروبا والطريف أن الاعتقاد الذي كان سائداً آنذاك أن أمعاء الفلاحين كانت وحدها القادرة على تحمل الخبز الأسمر القاسي، أما أمعاء النبلاء فهي مرهفة ولا تهضم سوى الخبز الأبيض الخفيف والطري .
وعلى مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر، عاشت فرنسا سلسلة من الاضطرابات العنيفة كان محورها الخبز، فالخميرة التي كان يصنع منها خبز النبلاء كانت تستورد من بلجيكا وذلك بخلاف خميرة خبز الشعب التي كانت عبارة عن قطعة من عجين سابق . ومن هنا نشأت بذور الصراع الأهلي حول الخميرة التي تحول النبلاء إلى كسولين قد يكون ولاؤهم السياسي لبلجيكا وليس لوطنهم كما اتهمهم البعض . واحتدم الخلاف في عام 1660 إلى أن منع معهد باريس للطب إنتاج خبز الخميرة المستوردة ثم عاد عن قراره بعد سنة مانعاً استعمال الخميرة الأجنبية فقط .
وبقيت الاضطرابات حول الخبز مستمرة لأكثر من 150 سنة بعدها، ففي عام 1775 أثار خباز باع الخبز الأسمر بسعر الأبيض، غضب ربات البيوت اللواتي هاجمنه ورمينه في النهر . وانتقلت النسوة وهن في فورة الغضب إلى قرية مجاورة وهاجمن أحد أفران الخبز وانفجر الوضع بشكل شامل، ففي عشرة أيام نهب ودمر نحو 00D فرن في البلاد وتأزم حال الرغيف في السنوات اللاحقة لهذه المشكلة إلى أن شكل الشرارة الأولى التي أشعلت الثورة الفرنسية الكبرى .
ومن أشهر الحكايات التي تروى في هذا المجال ما ورد عن ملكة فرنسا ماري انطوانيت التي قالت حين سئلت عن سبب تظاهر الناس وقيل لها إنه لا يوجد خبز، “إذا لم يكن هناك خبز، فليأكلوا البسكويت”، فما كان من الشعب إلا أن ثار عليها وعلى زوجها الملك لويس السادس عشر وقطع رأسيهما بالمقصلة . وتظهر لنا هذه الرواية طبقية الخبز الذي كان دائماً مرتبطاً بالسياسة والدم .
وإذا كان الخبز مرتبطاً بالسياسة، فالتاريخ الإسلامي يؤكد لنا أن السلاطين كانوا يحرصون دائماً على تحديد سعر الخبز، لا سيما في فترات الحروب والجفاف والكوارث الطبيعية . وبلغ هذا الحرص مبلغه خلال دولة المماليك، وخاصة في عصر السلطان بيبرس البندقداري الذي وضع قوانين تحدد نوعية الخبز وأوزانه وأسعاره، وكانت عقوبة الخباز الذي يتلاعب بالأوزان أو بنوعية الخبز صلبه بالمسامير على باب دكانه .
ويروى أن الملك جون في بريطانيا حرص في عام 1202م على تحديد أسعار المواد الأولية للخبز ومقدار أرباح الخبازين . وأجبر القانون الذي صدر في عام 1266 الخباز على وضع توقيعه الخاص على كل قطعة خبز يبيعها ليمكن التعرف فوراً إلى من تعود إذا لم تكن مطابقة للقانون .
ومن الحوادث التي تروى في هذا المجال أنه في عام 1327م في بريطانيا اكتشف أن أصحاب فرن عمومي استحدثوا فتحة صغيرة في أسفل المعجن لسرقة كمية من عجين النساء اللواتي كنّ يقصدنه لطهو خبزهن لديه، فهاجمت النسوة الفرن وانتهى الأمر بتوقيف أصحاب الفرن في الساحة العامة ليرجموا فيما أرسلت النسوة إلى السجن المركزي .
عادات
في الصين يطهو الفلاحون خبزهم في أفران مصنوعة من الطين المحروق ترفع درجة حرارتها إلى 900 درجة مئوية ويطلق عليها هناك “التونو” أما قطع الخبز فتسمى “جيرداس” . هذا النوع من الخبز المصنوع من طحين القمح يذكرنا بالكعك، لكنه لا يمرر على الماء المغلي قبل أن يطهى، ويقال إن قومية الأويغور وهي أقلية (شعوب تركية) تشكل واحدة من 56 عرقية في جمهورية الصين الشعبية وتتركز في منطقة تركستان الشرقية ذاتية الحكم التي تعرف باسم “شينجيانغ” وأفرادها يدينون بالإسلام، اخترعوا هذا النوع من الخبز قبل 2000 سنة .
وفي روسيا، وأثناء مراسم الزواج، يقدّم المدعوون الخبز على شكل رغيف سميك ومستدير وفوقه علبة ملح صغيرة وكأس من الفودكا . ويسمى الرغيف “الكارافاي” . ويمثل هذا التقليد علامة على رغد العيش والتمني بنجاح العلاقة الزوجية .
ومع مطلع كل سنة جديدة يتسلم كل ساكن لمنطقة “ريفا سان فيتال” السويسرية، قطعة من أصل 1650 قطعة خبز مصنوع بالريف باعتبارها قطعة مباركة تكريماً لذكرى ناسك يسمى “بيتو مانغريدو سيتالا” حول هذا الرجل في القرن الثالث عشر الميلادي وأثناء وقوع مجاعة عامة الحجارة إلى خبز، حسب الأسطورة .
وفي صحراء سيناء بمصر، يحضر البدو خبز “الصاج” بوضع قطعة رقيقة من العجين على “الصاج” المحمي مسبقاً وتطهى العجينة لدقيقة واحدة من كل جانب . ويتبع اللبنانيون والكرد هذه الطريقة مع استخدام وسادة تفرد عليها العجينة الرقيقة قبل أن توضع على الصاج كي لا تتمزق إذا ما وضعت باليد .
وعلى ضفاف بحيرة تيتيكاكا في بوليفيا يقوم شعب الأيمارا في جبال الأنديز البالغ تعداده مليوني نسمة بالاحتفال بالحصاد في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل سنة، حاملين حول أعناقهم أطواقاً من الخبز بأشكال متعددة لتقديمها على سبيل الهبات إلى “الباشا ماما” آلهة التربة عندهم . وأثناء هذه الاحتفالات يضحي الأيمارا بذبح رأس من حيوان اللاما كنوع من تقديم الشكر لهذه الآلهة لأنها قدمت لهم القمح ليحولوه إلى خبز .
وفي ميونيخ، يحتفل الألمان بعيد الخميرة “البريتزل” تعبيراً عن عشقهم للخبز الذي يصنعون منه 300 نوع . ويستهلك الألماني 85 كيلوغراماً من الخبز سنوياً . من ناحية ثانية يسمي الألمان العشاء المكون من شطائر الخبز المطلية بالزبدة أو العسل أو بسواهما، خبز العشاء .
وفي بوركينا فاسو “فولتا العليا سابقا”، تشتهر “الباغيت” وهي قطعة طويلة من العجين، تطهى داخل فرن مبني من الطين والقش المفروم يسمى “البناجو” . ويتكون الطحين الذي يخبز منه هذا النوع من الخبز من 10% من الذرة باعتبار أن بوركينا فاسو من الدول المنتجة له بكميات كبيرة .
وفي ،2008 استوردت بوركينا فاسو ب 30 مليون يورو قمحاً لإدخاله في الخبز، علماً بأنها تنتج 4 ملايين طن من الحبوب مثل الأرز والذرة والفول السوداني والسمسم، إضافة إلى القطن .
ثورات
في البلدان العربية حدث أكثر من اضطراب في القرن العشرين بسبب الرغيف، ففي أربعينات القرن الماضي أدى وزن الرغيف إلى إسقاط حكومة الشيخ تاج في سوريا، حيث كان الرغيف يباع يومها بالوزن ومحدداً بمواصفات ومعايير معينة، لكن أحد الأشخاص اكتشف في حلب أن أصحاب الأفران يزيدون من كمية الماء في العجين ويحرصون على وزن الخبز قبل أن يجف ماؤه تماماً، فانتشر الخبر وعم الغضب واعتبرت الحكومة مسؤولة عن ذلك وسقطت بسبب الرغيف .
وفي مصر، لم ينس الكثيرون انتفاضة الخبز التي وقعت عام 1977 حين حاولت الحكومة تقليص دعم الخبز وبعض السلع الأخرى، فهاج المصريون وخرجوا إلى الشوارع في غضبة حقيقية من أجل رغيف عيشهم، وهو ما عرف في التاريخ المصري بأحداث يناير/ كانون الثاني 1977 .
تختلف الأشكال والأنواع والجوهر واحد
الخبز طعم الحياة
الخبز هو رغيف الحياة، فرغم أنه مرادف للحياة في كل الحضارات تقريباً مع اختلاف في شكله ولونه ومذاقه من مكان إلى آخر، يبقى رمزاً واحداً في التراث والتقاليد الاجتماعية منذ آلاف السنين . وللخبز قصة تعود إلى ما يقرب من عشرة آلاف سنة مضت حين أكل الإنسان القديم أول خبز شبيه بالذي نعرفه اليوم وينتج عن طحن القمح ومزج دقيقه بالماء مع إضافة الملح (حسب المذاق) ثم تحميصه على النار .
أينما توجهنا في بقاع العالم، نجد أن لكل خبز شكله ونوع الحبوب المصنوع منها وطريقة مميزة في تحضيره . ومهما اختلف الخبز، شكلاً ومضموناً، فإنه يبقى الغذاء الرئيسي للإنسان وشأناً حياتياً حاضراً على الدوام . وقد يصبح هذا الشأن هماً في ظروف كثيرة، الأمر الذي يرسخ مكانته بشكل كبير في وجدان الإنسان واهتماماته . وعلاقة الخبز بالحياة على درجة كبيرة من العمق جعلت الشعوب البدائية تنسج حوله أسطورة خرافية تشبه العجين برحم المرأة الحامل الذي يتعاظم كبراً مع مرور الأيام إلى أن ينضج فيعطي الحياة، مثل قطعة العجين التي تنتفخ بالخميرة إلى أن تصبح جاهزة لتخبز وتؤكل . وتتجسد هذه الأسطورة في بعض التقاليد القديمة عند الإيطاليات اللواتي كنّ يقفن أمام المعجن ويقلدن أوجاع الولادة وانقباضات الرحم المؤلمة أملاً في أن يرتفع العجين ويتخمر .
وحمل الخبز في البلاد العربية اسم “العيش” دلالة على أن الحياة تتمحور حوله وتتعلق به وجاء بأصناف عديدة وأسماء مختلفة وفق المناطق التي يصنع فيها كالعيش البلدي، والتنور، والصاج، والخبز المحمر، ناهيك عن الأنواع الأجنبية التي راج تصنيفها في كل مكان مثل التوست والباغيت والبريوش .
كان إنسان ما قبل التاريخ يصنع الخبز المفرود بخلط الجريش بالماء ثم خبز العجين الناتج فوق حجارة مسخنة من قبل . ويعتقد المؤرخون أن قدماء المصريين تعلموا صنع خميرة الخبز في عام 2600 ق .م تقريباً، وكان الدقيق يخلط بالخميرة والحليب والتوابل والملح، ثم يعجن بالأيدي ويقطع ويطهى في مقلاة . أما الحضارتان اليونانية والرومانية فأسهمتا إسهاماً كبيراً في تطور صناعة الخبز . ففي عام 168 ق .م، وضعت روما دليلاً خاصاً للخبازين شكل قاعدة تحويل صناعة الخبز إلى اختصاص مستقل عن باقي الأعمال وافتتح معهد للخبازين كان تلاميذه يمنعون من الانسحاب منه والتحول إلى مهنة أخرى إذ اعتبر هؤلاء الحرفيون الأحرار الوحيدين في روما، فيما كان عمال الحرف الأخرى كلهم عبيداً .
وكان أعضاء المعهد وتلاميذه يمنعون أيضاً من الاختلاط مع الممثلين ومؤدي الألعاب البهلوانية تفادياً لالتقاط أية عدوى من عامة الناس .
وكان الفيلسوف اليوناني أفلاطون أشار منذ عام 400 ق .م إلى أن الدولة النموذجية هي تلك التي تجعل الإنسان يعيش حياة صحية ضمن بيئة نظيفة فيأكل خبزه المصنوع من القمح الكامل والمزروع محلياً، إلا أن دولاً كثيرة لم تأخذ قديماً بهذه الحكمة وأدى العمل بعكسها إلى أحداث كبيرة غيرت مجرى التاريخ .
الطبقية
منذ عصر الفراعنة، دخل الخبز في صميم التمييز الطبقي والاجتماعي، إذ كان في مصر الفرعونية ينقسم إلى ثلاثة أصناف: خبز دقيق القمح الذي كان يقتصر على الأغنياء، وخبز دقيق الشعير للطبقة المتوسطة، والخبز الأسمر كان للطبقة الفقيرة وكان يصنع من دقيق من نوع الحبوب البرية . واستمر الخبز معلماً من معالم الانقسامات الطبقية في معظم المجتمعات حتى القرن التاسع عشر الميلادي تقريباً .
وفي الحضارتين اليونانية والرومانية، كان الخبز خاصاً بالطبقات الارستقراطية وأصدر أحد قياصرة روما قراراً يقضي بسجن كل من يقدم خبزاً أسمر اللون إلى نبيل روماني، أما امتلاك الفقراء للخبز الأبيض فكان جريمة قد تؤدي إلى الإعدام . وخلال القرون الوسطى ظل الخبز موضع انقسام في أوروبا والطريف أن الاعتقاد الذي كان سائداً آنذاك أن أمعاء الفلاحين كانت وحدها القادرة على تحمل الخبز الأسمر القاسي، أما أمعاء النبلاء فهي مرهفة ولا تهضم سوى الخبز الأبيض الخفيف والطري .
وعلى مدى القرنين السابع عشر والثامن عشر، عاشت فرنسا سلسلة من الاضطرابات العنيفة كان محورها الخبز، فالخميرة التي كان يصنع منها خبز النبلاء كانت تستورد من بلجيكا وذلك بخلاف خميرة خبز الشعب التي كانت عبارة عن قطعة من عجين سابق . ومن هنا نشأت بذور الصراع الأهلي حول الخميرة التي تحول النبلاء إلى كسولين قد يكون ولاؤهم السياسي لبلجيكا وليس لوطنهم كما اتهمهم البعض . واحتدم الخلاف في عام 1660 إلى أن منع معهد باريس للطب إنتاج خبز الخميرة المستوردة ثم عاد عن قراره بعد سنة مانعاً استعمال الخميرة الأجنبية فقط .
وبقيت الاضطرابات حول الخبز مستمرة لأكثر من 150 سنة بعدها، ففي عام 1775 أثار خباز باع الخبز الأسمر بسعر الأبيض، غضب ربات البيوت اللواتي هاجمنه ورمينه في النهر . وانتقلت النسوة وهن في فورة الغضب إلى قرية مجاورة وهاجمن أحد أفران الخبز وانفجر الوضع بشكل شامل، ففي عشرة أيام نهب ودمر نحو 00D فرن في البلاد وتأزم حال الرغيف في السنوات اللاحقة لهذه المشكلة إلى أن شكل الشرارة الأولى التي أشعلت الثورة الفرنسية الكبرى .
ومن أشهر الحكايات التي تروى في هذا المجال ما ورد عن ملكة فرنسا ماري انطوانيت التي قالت حين سئلت عن سبب تظاهر الناس وقيل لها إنه لا يوجد خبز، “إذا لم يكن هناك خبز، فليأكلوا البسكويت”، فما كان من الشعب إلا أن ثار عليها وعلى زوجها الملك لويس السادس عشر وقطع رأسيهما بالمقصلة . وتظهر لنا هذه الرواية طبقية الخبز الذي كان دائماً مرتبطاً بالسياسة والدم .
وإذا كان الخبز مرتبطاً بالسياسة، فالتاريخ الإسلامي يؤكد لنا أن السلاطين كانوا يحرصون دائماً على تحديد سعر الخبز، لا سيما في فترات الحروب والجفاف والكوارث الطبيعية . وبلغ هذا الحرص مبلغه خلال دولة المماليك، وخاصة في عصر السلطان بيبرس البندقداري الذي وضع قوانين تحدد نوعية الخبز وأوزانه وأسعاره، وكانت عقوبة الخباز الذي يتلاعب بالأوزان أو بنوعية الخبز صلبه بالمسامير على باب دكانه .
ويروى أن الملك جون في بريطانيا حرص في عام 1202م على تحديد أسعار المواد الأولية للخبز ومقدار أرباح الخبازين . وأجبر القانون الذي صدر في عام 1266 الخباز على وضع توقيعه الخاص على كل قطعة خبز يبيعها ليمكن التعرف فوراً إلى من تعود إذا لم تكن مطابقة للقانون .
ومن الحوادث التي تروى في هذا المجال أنه في عام 1327م في بريطانيا اكتشف أن أصحاب فرن عمومي استحدثوا فتحة صغيرة في أسفل المعجن لسرقة كمية من عجين النساء اللواتي كنّ يقصدنه لطهو خبزهن لديه، فهاجمت النسوة الفرن وانتهى الأمر بتوقيف أصحاب الفرن في الساحة العامة ليرجموا فيما أرسلت النسوة إلى السجن المركزي .
عادات
في الصين يطهو الفلاحون خبزهم في أفران مصنوعة من الطين المحروق ترفع درجة حرارتها إلى 900 درجة مئوية ويطلق عليها هناك “التونو” أما قطع الخبز فتسمى “جيرداس” . هذا النوع من الخبز المصنوع من طحين القمح يذكرنا بالكعك، لكنه لا يمرر على الماء المغلي قبل أن يطهى، ويقال إن قومية الأويغور وهي أقلية (شعوب تركية) تشكل واحدة من 56 عرقية في جمهورية الصين الشعبية وتتركز في منطقة تركستان الشرقية ذاتية الحكم التي تعرف باسم “شينجيانغ” وأفرادها يدينون بالإسلام، اخترعوا هذا النوع من الخبز قبل 2000 سنة .
وفي روسيا، وأثناء مراسم الزواج، يقدّم المدعوون الخبز على شكل رغيف سميك ومستدير وفوقه علبة ملح صغيرة وكأس من الفودكا . ويسمى الرغيف “الكارافاي” . ويمثل هذا التقليد علامة على رغد العيش والتمني بنجاح العلاقة الزوجية .
ومع مطلع كل سنة جديدة يتسلم كل ساكن لمنطقة “ريفا سان فيتال” السويسرية، قطعة من أصل 1650 قطعة خبز مصنوع بالريف باعتبارها قطعة مباركة تكريماً لذكرى ناسك يسمى “بيتو مانغريدو سيتالا” حول هذا الرجل في القرن الثالث عشر الميلادي وأثناء وقوع مجاعة عامة الحجارة إلى خبز، حسب الأسطورة .
وفي صحراء سيناء بمصر، يحضر البدو خبز “الصاج” بوضع قطعة رقيقة من العجين على “الصاج” المحمي مسبقاً وتطهى العجينة لدقيقة واحدة من كل جانب . ويتبع اللبنانيون والكرد هذه الطريقة مع استخدام وسادة تفرد عليها العجينة الرقيقة قبل أن توضع على الصاج كي لا تتمزق إذا ما وضعت باليد .
وعلى ضفاف بحيرة تيتيكاكا في بوليفيا يقوم شعب الأيمارا في جبال الأنديز البالغ تعداده مليوني نسمة بالاحتفال بالحصاد في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل سنة، حاملين حول أعناقهم أطواقاً من الخبز بأشكال متعددة لتقديمها على سبيل الهبات إلى “الباشا ماما” آلهة التربة عندهم . وأثناء هذه الاحتفالات يضحي الأيمارا بذبح رأس من حيوان اللاما كنوع من تقديم الشكر لهذه الآلهة لأنها قدمت لهم القمح ليحولوه إلى خبز .
وفي ميونيخ، يحتفل الألمان بعيد الخميرة “البريتزل” تعبيراً عن عشقهم للخبز الذي يصنعون منه 300 نوع . ويستهلك الألماني 85 كيلوغراماً من الخبز سنوياً . من ناحية ثانية يسمي الألمان العشاء المكون من شطائر الخبز المطلية بالزبدة أو العسل أو بسواهما، خبز العشاء .
وفي بوركينا فاسو “فولتا العليا سابقا”، تشتهر “الباغيت” وهي قطعة طويلة من العجين، تطهى داخل فرن مبني من الطين والقش المفروم يسمى “البناجو” . ويتكون الطحين الذي يخبز منه هذا النوع من الخبز من 10% من الذرة باعتبار أن بوركينا فاسو من الدول المنتجة له بكميات كبيرة .
وفي ،2008 استوردت بوركينا فاسو ب 30 مليون يورو قمحاً لإدخاله في الخبز، علماً بأنها تنتج 4 ملايين طن من الحبوب مثل الأرز والذرة والفول السوداني والسمسم، إضافة إلى القطن .
ثورات
في البلدان العربية حدث أكثر من اضطراب في القرن العشرين بسبب الرغيف، ففي أربعينات القرن الماضي أدى وزن الرغيف إلى إسقاط حكومة الشيخ تاج في سوريا، حيث كان الرغيف يباع يومها بالوزن ومحدداً بمواصفات ومعايير معينة، لكن أحد الأشخاص اكتشف في حلب أن أصحاب الأفران يزيدون من كمية الماء في العجين ويحرصون على وزن الخبز قبل أن يجف ماؤه تماماً، فانتشر الخبر وعم الغضب واعتبرت الحكومة مسؤولة عن ذلك وسقطت بسبب الرغيف .
وفي مصر، لم ينس الكثيرون انتفاضة الخبز التي وقعت عام 1977 حين حاولت الحكومة تقليص دعم الخبز وبعض السلع الأخرى، فهاج المصريون وخرجوا إلى الشوارع في غضبة حقيقية من أجل رغيف عيشهم، وهو ما عرف في التاريخ المصري بأحداث يناير/ كانون الثاني 1977 .