الزجاج المعشق
تعتبر صناعة الزجاج من الحرف العريقة التي ورثتها الأجيال جيلاً بعد جيل حتى هذا العصر، وهي من الحرف التي تستمد مادتها من البيئة، حيث تعتمد على مخلفات الزجاج كمادة خام، وعلى الألوان التي يختارها الحرفي.
وقد شهدت هذه الصناعة تطوراً كبيراً وملحوظاً في العصر الإسلامي في المنطقة العربية لاسيما في بلاد الشام وفي دول المغرب العربي، وبرزت الزخرفة الإسلامية على سطح المرايا والقوارير بألوانها المطلية بالذهب وبالنقوش المتداخلة وخطوط الرسوم الهندسية التي تميز بها الفن الإسلامي.
وبقيت هذه المهنة في ازدهار واكتسبت أهمية كبيرة في الفترة الواقعة بين القرن الرابع الهجري وحتى القرن الرابع عشر، ثم أدخلت عليها تقنيات حديثة في صناعة الزجاج كأشكال بديلة عن النفخ التقليدي، لارتباطها ارتباطاً وثيقا مع منتجات الديكور والإكسسوارات.
خلال الحقبة البيزنطية في أوروبا كان هناك طراز متميز لنوافذ الزجاج العربي يسميه
الأوروبيين (الموريش) نسبة إلى عرب شمال أفريقيا والمغاربة .
انتشر هذا الفن في العالم الاسلامي في القصور والمساجد وفي واوروباا الكنائس والقصور
استخدم الزجاج المعشق في العالم من تلك الفتره والى يومنا هذا و ذلك لانه له طباع جمالي مميز ..وانه يدخل النور الى المكان بألوان متنوعة ومختلفة مع كل فترة من النهار.فالزجاج المعشق فن خلاب، يعتمد على مرور الضوء عبر القطع الزجاجية الملونة لينشر في الداخل أضواء ملونة حالمة تمتزج ببعضها البعض وتتغير
ألوانها على مدار النهار.. وذلك لاختلاف زاوية سقوط الشمس عليه فنور الصباح يختلف عن النور عند الظهر وعنه عند المساء.
اختيار المكان المناسب لوضع الزجاج المعشق مهم جدا...يفضل أن يكون معرضاً للشمس لإبراز جمال وزهو ألوان الزجاج وخصوصاً عند انعكاس تفاصيل التصاميم على الجدران والأرضيات
وكذلك لتخفيف حدة أشعة الشمس ....وتستخدك في القباب وهي عباره عن فتحات سقفيه محدبه او في الفتحات السقفيه المستطيله او ذات الاشكال الهندسيه المختلفه
او واجهات المبنى النوافذ الرئيسيه للمبنى .
تطور فن الزجاج المعشق خلال الفترات الزمنيه المتعاقبه ، والسمات المميزه له خلال كل فتره :
لا يستطيع أحد أن بتصور وجود عمائر مشيده دون وجود فتحات تدخل الضوء الي داخلها ، ولكتن هناك مشكله ملحه لإغلاق هذه الفتحات بألواح sheets تسمح بمرور الضوء من ناحيه ومن ناحيه اخري توفر الحمايه لداخل المبني ضد الرياح والعواصف الضاريه .
وجاء الحل في عهد الدوله الرومانيه ، حيث تم إغلاق هذه الفتحات باستخدام ألواح من المرمر النصف شفاف translucent alabater وقد وجدت نماذج من هذا العمل في القسطنطينيه ترجع الي حكم الامبراطور جستينيان
وللرومان يرجع الفضل فياستخدام الزجاج في ملء فتحات النوافذ ، ففي حوالي القرن الاول الميلادي ظهرت النوافذ الزجاجيه وأصبحت سمه اساسيه في منازل الاثرياء خاصه في شمال اوروبا .
وقد عثر في مدينه بومباي pompeii في ايطالبا على بقايا نوافذ زجاجيه رومانيه ترجع الي القرن الاول الميلادي ، وهي عباره عن قطع زجاجيه صغيره مثبته على شبكه من البرونز بواسطه صماويل ومسامير لولبيه . وأبعاد هذه النافذه 100 * 80 سم3 وكانت موضوعه فوق فتحه نافذه حجره الاستراحه بحام أحد القصور .
وكان انتاج مثل هذه النوافذ البسيطه بدايه لظهور فن الزجاج المعشق بالرصاص والذي يمكن تأريخه ببدايه العصر الرمانسكي Romanesque "القرن 11 : 12 م " حيث شيدت الكنائس في هذا العصر وفقا للطراز الرومانسكي ، وهو فن يعتمد اساسا على قواعد وتقنيات الفن الروماني ، مع ظهور تأثيرات بيزنطيه ، وتتميز الكنائس التي شيدت على هذا الطراز باستخدام العقود المستديره ، والاقبيه الحجريه النصف اسطوانيه ، حيث حل هذا النوع من التغطيه محل الاسقف الخشبيه السائدة الاستخدام في الطرز المعماريه السابقه والتي كانت دائمه التعرض للحرائق والانهيارات .
ومن المعروف أن استخدام الاقبيه الحجريه النصف اسطوانيه يستلزم تقويه الجدران بزياده سمكها ، مما يترتب عليه صعوبه فتح نوافذ في هذه الجدران السميكه ، خوفا من اضعافها ، فجاءت نوافذ هذه العمائر الرومانسكيه صغيره الحجم ، ولكن مع صغر حجم هذه النوافذ فان مولد فن الزجاج المعشق بالرصاص ،انما جاء مواكبا لنمو وتطور الفن في العصر الرومانسكي .
واقدم الحشوات الزجاجيه المعشقه بالرصاص على الاطلاق ،يمكن ارجاع تاريخها الي ما قبل العصر الرومانسكي بقليل ،ولكنها حشوه غير متكامله ولا تعطي فكره كبيره عن هذا الفن ، وهي عباره عن كسر زجاجيه صغيره الحجم عثر عليها في دير Lorsch في المانيا ، وعند تجميعها أعطت صوره توضح راس السيد المسيح ،ويمكن ارجاع هذه الحشوه الي نهايه القرن 9م وبدايه القرن 10م
ولكن تعتبر النوافذ الزجاجيه المعشقه بالرصاص بكاتدرائية " أجسبرج بألمانيا Augsburgوالتي تؤرخ بنهايه القرن الحادي عشر الميلادي " سنه 1065م " من أقدم وأكمل حشوات الزجاج المعشق بالرصاص ، والتي تنسب للعصر الرومانسكي .
وتمثل هذه النوافذ صورا شخصيه لخمسة انبياء في حجم تذكاري كبير . وتعتبر الحشوات الزجاجيه بكاتدرائيه لومانز Lemans الفرنسيه من النماذج القليله ذات الطراز الرومانسكي المبكر التي تم الحفاظ عليها .
وهناك حشوات تمثل مشهد صعود السيد المسيح ،وتؤرخ بحوالي سنه 1145 " القرن 12م " حيث يظهر في الصوره حشوتان من اربع حشوات تتمثل فيها السيده العذراء في الوسط ، في رداء أزرق على ارضية حمراء ، وعلى جانبها سته من الرسل ، ثلاثه من كل جانب ، والجميع ينظرون لأعلي يشهدون صعود المسيح وهو غير مصور بالحشوات المذكوره .
ومع بدايه القرن الثالث عشر ( سنه 1200م ) بزغ فجر جديد بالنسبه لفن الزجاج المعشق بالرصاص والمقصود بذلك ظهور الطراز القوطي Gothic Art الفني والمعماري ومانتج عن من ظهرو أسلوب جديد متطور بالنسبه لفن الزجاج المعشق بالرصاص ، يتفق والامكانيات الجديده التي وفرها هذا الطراز المعماري . فإذا كانت العماره الرومانسكيه قد فشلت في ايجاد حل لمشكلة نقص عدد النوافذ وصغر حجمها فإن الحل قد جاء على أيدي المعماريين في العصر القوطي " القرن 13 : 14 م حيث استخدم العقد المدبب والقبو المضلع ، فتم التغلب على مشكلة نفص النوافذ ، حيث أن السقف العالي يتيح فرصة عمل نوافذ عاليه ومتعدده ، كما استخدم المعماري أيضا دعامات طائره flying buttress تدعم الحواط من الخارج ، فاستطاعت أن تمتص قوة دفع الاقبيه المرتفعه ، واصبح بناء الكنائس والكاتدرائيات القوطيه لا يعتمد كثيرا على الحوائط ، مما قلل من فرصة الاعتماد على التصوير الجداري الي حد كبير واصبح من الضروري الاستعانه عن هذا النقص بتصوير الموضوعات الدينيه على نوافذ الزجاج الملون المعشق بالرصاص والتي امتازت بارتفاعها واتساعها وكثرة عددها حتي صارت الكاتدرائيات القوطيه - وكما ذكر في بعض المراجع ( بناء سقفه من حجر وجدارنه من الزجاج ) .
ومن أهم ما شيد من كاتدرائيات وفقا للطراز القوطي :-
- نجد في فرنسا كاتدرائيه شارتر Charters .
- ونوتردام بباريس No.tredam de paris .
- وفي انجلترا يتمثل هذا الطراز في كاتدرائيه سالزبريSals bury .
- وكاتدرائيه ويلز wells .
- وخير مايمثل هذا الطراز في ألمانيا كاتدرائية كولون Cologne .
وقد امتاز فن الزجاج المعشق بالرصاص منذ بداياته المبكره وحتى عصرنا الحالي بسمات اساسيه ميزته في كل فتره زمنيه :-
ففي القرنين الثاني عشر ، الثالث عشر امتازت الحشوات الزجاجيه الملونه بصغر حجمها وتجميعها جنبا الي جنب وكأنها لوحه من الفسيفساء تترابط أجزاؤها معا بواسطه معدن الرصاص ، الذي لعب دورا هاما ومكلا للتصميم الجمالي للحشوات.
واعتمد النسق اللوني لنوافذ الزجاج المعشق في هذه الفتره على استخدام حشوات زجاجيه ملونه ، نتيجه لاضافه الاكاسيد الملونه أثناء عمليه صهر الزجاج (ويطلق على هذا النوع من الزجاج الملون الناج عن اضافه اكسيد ملون وكما سبق الذكر مصطلحPot coloured glass or pot metal glass ومن ألوان الحشوات الزجاجيه التي شاع استخدام الازرق بدرجاته ، واللون الأحمر بدرجاته ، وكان يكتفي باستخدام لون واحد داكن في تحديد الملامح وبعض التفاصيل .
وخلال القرن الرابع عشر ظل فن الزجاج المعشق محافظا على تطوره مع تغيير النسق اللوني عن ما تميزت به الفتره السابقه ، والتي اعتمدت اساسا على استخدام زجاج باللونين الازرق والاحمر حيث حل محلها تصميمات امتازت باستخدام اللون الاصفر بكثر نتيجه معرفه واستخدام نترات الفضه ،للحصول على صبغة الفضه Silver stain وهو مركب عرف لأول مره في هذا القرن .
وفي القرن الخامس عشر الميلادي ضعفت العلاقه بين حشوات الزجاج ومعدن الرصاص واصبح التصوير والمهارات المتبعه في تنفيذه أهم سمات هذه الفتره ، ولم يعد معدن الرصاص يلعب دورا هاماً في بناء التصميم العام للنافذه كما الحال في الفتره المبكره .
وشهد القرن السادس عشر ظهور روح عصر النهضهRenassance حيث قل الوازع الديني وهو العامل الاساسي وراء انتاج الروائع المبكره لهذا الفن حيث تطور اسلوب التصوير على حشوات الزجاج المعشق تطورا كبيراُ في محاوله لتقليد فن التصوير الزيتي ،وقل الاعتماد على استخدام قضبان معدن الرصاص كنمط زخرفي مكمل للتصميم .
وفي نهايه القرن السادس عشر طبقة المينا الملونهColoured enamel على المساحات المراد تلوينها ،حيث تعطي بعد احراقها التأثيرات الجماليه المطلوبه دون الحاجه الي استخدام معدن الرصاص في تحديد الاشكال المطلوبه .
ونتيجه لاستخدام المينا الملونه فقد الزجاج شفافيته المعهوده ، والتي تعتبر من اهم ما يميزه .
وخلال القرنين السابع عشر والثامن عشر ملادي انحدر مستوي هذا الفن الي ادني مستوي نتيجه قلة انتاج حشوات زجاجيه ملونه , حيث اصبح الاعتماد قائما كلية على استخدام حشوات زجاجيه شفافه عديمه اللون مع استخدام الوان المينا للحصول على النسق اللوني المطلوب في محاوله مستمره لتقليد فن التصوير الزيتي ، كما كان لأختراع وانتشار فن الطباعه أثرا فعالا في قلة الاهتمام بهذا الفن الذي كان يستخدم كوسيله تعليميه من قبل الكنيسه .
ومع بدايه القرن التاسع عشر الميلادي ظهرت حركه احياء الطراز القوطي المعماري وتبع ذلك احياء لفن الزجاج المعشق بالرصاص وفقا لتقاليد واساليب الفن القوطي المعماري، حيث استبعد استخدام الوان المينا تماما ، واستخدمت الحشوات الزجاجيه الملونه ، واعطيت الاهميه والعنايه لعملية التعشيق واستخدام معدن الرصاص ، بحيث يخدم التصميم .
اما في القرن العشرين فقد اختلف وتنوع اسلوب فن الزجاج المعشق بالرصاص فيه وفقا لإختلاف المكان الذي يتطلب استخدام حشوات الزجاج المعشق به ، فالبنسبه للكنائس والكاتدرائيات نجد ان ما أنتج لها من حشوات زجاجيه جاء ليضاهي ما انتج من زجاج في العصور الوسطي ، هذا بالاضافه الي انتاج نوافذ تذكاريه تخلد ذكرى معنيه مثل النافذه التي تمثل حرب نيوزلاند Newzeland war .
كما انتجت ايضا في القرن الحالي ( الحادي والعشرين الميلادي ) بلاطات زجاجيه سمكيه تقطع بطرق معينه ، تجعلها تشبه قطع ألماس ، ونظرا لسمكها . فإنه يتعذر تجميعها بمعدن الرصاص ، ولذلك فهي تثبت في واجهات المباني بمواد معينه ( او بالخرسانه ) للحصول على ما يشبه قطع الفسيفساء الزجاجيه .
وكان لطريقة النفخ في الزجاج مكانة مميزة في إنتاج القوارير ومزهريات الزينة، هذه الطريقة التي تعتمد على تعبئة الهواء داخل قوارير وقوالب بعد تسخينها وصهرها في درجات عالية من الحرارة، حيث أن عملية النفخ في كتلة العجين الزجاجي تنتج أشكالاً مختلفة من المنتجات الزجاجية كالأباريق والمزهريات وعلب الحلوى وصناديق الزينة والقوارير، ويحدد الحرفي الشكل والحجم النهائي للقطعة المراد تكوينها، ويختار لاحقاً نوع الزخرفة والنقش على سطحها، ويحتاج الحرفي الذي يعمل في صناعة الزجاج إلى مهارات فنية عالية كالمثابرة أمام أفران تعمل في درجات مرتفعة من الحرارة، والتدريب المستمر لفترات قد تصل إلى 4 سنوات لإتقان هذه الصنعة، وكذلك فلابد من توفر القدرة الإبداعية والفنية عند الحرفي لاكتساب المزيد من المهارة ومن ثم الإبداع في هذه الحرفة التي تحتاج إلى مواكبة الزمن والتطور وإنتاج نماذج مختلفة بين الحين و الآخر.
الزجاج الملون جزء أساسي من الديكور
عرفت أنواع مختلفة من الزجاج الملون قديماً، ولا يزال أثر هذا الفن باقياً في آثار غرناطة حيث "قصر الحمراء" المزين بالثريات والقمريات الزجاجية، كذلك مسجد قرطبة الذي أقيم في عهد الخليفة عبد الرحمن بن معاوية (عبد الرحمن الداخل) الذي زين بأكثر من 365 ثريا ومشكاة وقنديل للزيوت.
وحاليا أصبح الزجاج الملون من أكثر المواد عصرية في المباني، والذي كان يعتبر مجرد زخرفة لمدة طويلة من الزمن، وهو يخضع اليوم لخطوات أكثر ابتكاراً، وذلك نتيجة الاستغلال الأمثل للإمكانيات الكبيرة الموجودة في الزجاج وكذلك استغلال التقنيات الحديثة وتطور الفكر الإبداعي والهندسي.
صناعة الزجاج المعشق في العصر الإسلامي:
يشكل الزجاج المعشق فناً من فنون البناء والديكور في التراث الإسلامي، فلفترة زمنية طويلة كان توظيف الزجاج بألوانه في البناء ضرورة لا غنى عنها عند تشييد القصور والأبنية، كعنصر رئيسي من عناصر الديكور التي تضفي جمالاً وسحراً في العمارة الإسلامية، حيث انتشرت نوافذ الزجاج المعشق بالجص كمظهر من مظاهر العمارة الإسلامية التي جاءت متوافقة مع الظروف المختلفة لذلك المجتمع.
ومن الأمثلة المبكّرة للنوافذ الجصية المفرغة "نوافذ قصر الحير الغربي" ببادية الشام والجامع الأموي بدمشق وجامع عمرو بن العاص بالفسطاط في مصر وجامع أحمد بن طولون.
وكان الرأي السائد لدى علماء الفنون والآثار من قبل أن أول ظهور للنوافذ الجصية المعشقة بالزجاج كان في العصر الأيوبي، وذلك في نوافذ قبة ضريح السلطـان الصالح نجم الدين أيوب الملحق بمدرسته بالنحاسين بالقاهرة، ولكن الحفائر الأثرية أثبتت أن الزجاج المعشق بالجص استخدم منذ العصر الأموي، واستـمر في قصور الخلفاء العباسيين، كما استخـدمت في أواخر العصر الفاطمي ألواح من الجص معشق بالزجاج الملوّن بدلاً من الألواح الرخامية والحجرية المفرغة، وانتقل هذا الأسلوب الفني إلى عمارة العصر الأيوبي حيث بلغ أوج ازدهاره في العصر المملوكي، وأصبح من السمات المميزة للعمارة المدنية والدينية في العصر العثماني.
وقد عرفت بعض بلدان العالم الإسلامي أنواعاً متعددة من النوافذ مثل المدورات الرخامية اليمنية (القمريات) التي كانت تتميز برقتها ولا يزيد سمكها عن سنتيمتر ونصف بحيث تسمح بنفاذ الضوء من خلالها، و(الشماسات) المغربية وهي عبارة عن نوافذ نصف دائرية توجد أعلى الأبواب والنوافذ وتغطى بالخشب والزجاج الملون وتسمح بدخول ضوء الشمس، ومع دخول العثمانيين إلى العديد من البلاد الإسلامية أصبح أسلوب النوافذ الزجاجية المعشقة بالجص هو الأسلوب السائد.
ولكن ما هي القمريات والشمسيات؟
تعتبر (القمريات والشمسيات) أحد العناصر البارزة في المباني العربية والإسلامية، والتي تم توظيفها لإيجاد علاقة تجمع بين القيمة الجمالية والنفعية، فمن وظائفها منع الحشرات التي تتسلل من خارج المبنى إلى داخله، وهي بهذا تحقق مبدأ أمني يتعلق بحياة الإنسان، كما أنها ترشد من كمية الضوء الداخل إلى المكان وتمنع الأتربة، وهي تخفف الأحمال على الأعمدة الحاملة للعقود.
وكان ابتكار هذه الشمسيات والقمريات بدافع من الرغبة في تخفيف حدة الضوء في القصور التي شيدها الخلفاء في الشام ثم استعملت في المساجد ذات الصحن المكشوف للغرض نفسه، وانتشر هذا النوع من الشبابيك في العمائر الدينية، وتعرف هذه الشبابيك عادة باسم "القمرية" إذا كانت مستديرة، وباسم "الشمسية" إذا كانت غير مستديرة، وأقدم شباك منها محفوظ في المتحف الإسلامي في القاهرة وأصله من جامع الأمير "قجماس"، الذي يرجع تاريخه إلى أواخر القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي).
التحول من التعشيق بالجص إلى التعشيق بالرصاص:
استخدم العرب الجص "الجبس" للشمسيات والقمريات كخامة أساسية عند تعشيق الزجاج، لعدم وجود عوائق تحول دون انتشارها لجفاف الجو من ناحية واستقرار معظم فصول السنة من ناحية أخرى، بالإضافة إلى الدفء الذي تحدثه الشمس والذي يأتلف معه الجبس كخامة مستخدمة في التعشيق .
ولكن تلك الخامات لم تتوافق مع جو أوروبا لتأثرها بالمناخ البارد ذي الرطوبة العالية أغلب فصول العام، فطرح اختلاف المناخ الأوروبي على فنانيهم فكرة استبدال الجص بمعدن طيع سهل هو (الرصاص) أو (بلاط الأسمنت الصلب بعد الجفاف)، وهاتان الخامتان مع الزجاج الملون جعلت لأوروبا تقنيتين معروفتين تعكسان التوافق بين الخامة والمناخ هما "فن الزجاج المؤلف بالرصاص"، و"بلاطات الزجاج مع الأسمنت".
وقد استلهم فنانو الغرب فن النوافذ الزجاجية من العمارة الإسلامية، مع استبدال الجص بشرائح من الرصاص تثبت بها قطع الزجاج، وذلك لملائمة الرصاص للجو البارد الذي يسود أوروبا لكن الفنان الأوروبي قام بترتيب قطع الزجاج بحيث تكون رسوماً آدمية وحيوانية ومناظر دينية (أيقونات) مختلفة في ذلك عن الطابع الزخرفي الذي تميّزت به الأعمال الفنية الإسلامية، وتشكل نوافذ الزجاج المعشق بالرصاص ملمحاً أساسيا ومميزاً في الكنائس والكاتدرائيات المنفذة حسب الطراز الفني القوطي والرومانسكي.
تطور صناعة الزجاج المعشق في أوروبا:
تطور فن النوافذ العربية المطعم بالزجاج المعشق "الشمسيات والقمريات" في القرن العاشر الميلادي، في أوروبا حيث ظهر عندهم طراز منه أسماه الأوروبيون (الموريش) نسبة إلى عرب شمال أفريقيا والمغاربة، وكانت تتم صناعة هذا الطراز بإحدى طريقتين:
الأولى:
عن طريق نحت الرخام أو الحجر وإدخال قطع الزجاج في المكان المنحوت.
الثانية:
عن طريق وضع قطع الزجاج في اللياسة قبل أن تجف، ويتم تقوية وتدعيم هذه اللياسة بوضع قضبان من الحديد داخلها، وبذلك تكون اللياسة المدعمة بالحديد تحيط بقطع الزجاج، ومن أبرز النماذج المعتمدة على هذا الأسلوب (نوافذ الجامع الأزرق) في مدينة استانبول بتركيا، حيث استخدم الزجاج في تصميم نوافذ متميزة برسوم الزهور.
بعد ذلك تطورت صناعة الزجاج المعشق، وأصبح استخدام الرصاص والنحاس كبديل للرخام والحجر واللياسة، لتصبح تصاميمه أكثر جمالاً وأفضل جودة وأقل تكلفة
الفنون التي أثرت في نشأة فن الزجاج المعشق بالرصاص
لا تنشأ الفنون المختلفه عاده من فراغ ، بل أنها تعتمد على فنون أخرى سابقه عليها تستعد منها اصولها ، وبالنسبه لفن الزجاج المعشق بالرصاص ، نجد أن هناك بعض الفنون التي ازدهرت في العصور الوسطي ، واثرت تأثيرا مباشرا في نشأة هذا الفن ، ومن هذه الفنون :-
1- فن الفسيفساء للأرضيات :
وفن فن تكسية الارضيات والقباب بقطع صغيره من الحجر او الرخام او ازجاج الملون والتي توضع جنبا الي جنب مكونة مناظر تصويريه ، ونفس الاسلوب يكاد يكون هو المتبع في فن الزجاج المعشق بالرصاص ، حيث توضع قطع الزجاج الملون جنبا الي جنب لتعطي في النهايه تصميما معيناً .
2- فن المينا :
يعتبر فن المينا الفن الثاني الذي قام على أساسه فن الزجاج المعشق بالرصاص حيث استوحى الفنان فكرة ربط قطع الزجاج الملون بعضها بالبعض الآخر بواسطة قضبان معدن الرصاص من فن المينا ،خاصه فن المينا المحاطه بالأسلاك المعدنيه Cloisonee enameling المستخدمه في صناعة الحلي حيث يتم إحاطه المساحات المطبق عليها بودرة المينا الزجاجيه الملونه بأسلاك ذهبيه يتم لحامها الي قاعده ذهبيه ، حيث تنصهر المينا الي مساحات ملونه عند التسخين .
واستبدل فنان الزجاج المشق معدن الذهب بمعدن ارخص له قابليه للسحب تسمح بأن يحيط بقطع الزجاج الملون مختلفة الاشكال والاحجام " معدن الرصاص " .
3- فن النوافذ الجصيه المفرغه :
اذا كان فن الزجاج المعشق بالجص قد نشأ وازدهر في بلاد الشرق الاسلامي في نفس فترة نمو وازدهار فن الزجاج المعشق بالرصاص في اوروبا ، فليس من المستبعد تأثر نشأة الزجاج المعشق بالرصاص الاوروبي ببواكير فن الصناعه الزجاج المعشق بالجص في المشرق الاسلامي ، فمن المعروف أن هذا الاخير قد مر بمراحل تطور عديده قبل ان يصل الي قمته في خلال القرنين 14 - 15 م ، وكانت بدايه هذا الفن " عباره عن قمريات جصيه ذات زخارف مفرغه متشابكه خاليه من الزجاج ، والتي ربما يكون الفنان الاروبي قد استوحى منها التصميم العام لفنه ، ثم فكر بعد ذلك فياستخدام ماده شفافه تملأ بها هذه الفراغات لتحمي داخل المبنى من تأثير العوامل الجويه الخارجيه وفي نفس الوقت تسمح بدخول قدر كاف من الضوء الي الداخل " وهي ماده الزجاج " وذلك بعد استبدال الشبكات الجصيه المفرغه بقضبان معدن الرصاص.
الموازييك أحد فنون الزجاج المعشق:
فن الموزاييك
الموزاييك كلمة أعجمية تقابلها في اللغة العربية كلمة (فسيفساء)، وهي تشير إلى نوع من الفن يقوم بالأساس على تجميع قطع حجرية أو خزفية أو زجاجية صغيرة تعطي في النهاية الشكل المطلوب في صورة متفردة بديعة.
وتستخدم تكوينات "الموزاييك" المصنوعة من الزجاج لكساء الحوائط الخارجية والداخلية للمباني ولكساء الخشب، أو لعمل بانوهات خاصة وغالباً ما تُستخدم طريقه "الموزاييك" في صنع وحدات الديكور التي تصنع للمداخل والممرات بالمصانع والشركات والسلالم والحمامات وذلك لسهولة تعشيقها (بالخرسانة) بالإضافة لاستخدامها في عمل المناضد والكراسي حول حمامات السباحة.
مدارس فسيفسائية متعددة:
وقد برعت المدرسة البيزنطية في تعميق فن (الموزاييك) بالأسلوب التعبيري الرمزي، وبرع فنانوها في استخدامه في تجميل الكنائس بخلفيات ذهبية وتقسيمات غاية في الإبداع، في حين اتجهت المدرسة الرومانسية إلى الأسلوب الأكاديمي، وذلك لما يتمتع به روادها من مهارة ودقة في صياغة وصناعة خاماتها الزجاجية المطبوخة، والحصول على درجات لونية شديدة التقارب بعضها البعض، لدرجة أن المشاهد لهذه اللوحات الفنية لا يمكنه التفرقة بينها وبين اللوحات الزيتية، وتوجد هذه الأعمال الفنية الرائعة على جدران مباني كنيسة الفاتيكان بروما وأماكن أخرى متفرقة في إيطاليا.
الموزاييك الإسلامي:
ولاشك في أن فن (الفسيفساء) الإسلامي هو الأكثر تفرداً وتميزاً من بين كل فنون (الموزاييك) الأخرى، فعلي امتداد(14) قرناً لعب الفن الإسلامي دوراً هاماً في التأثير على الحضارات التي جاءت بعده ولا يزال تأثيره موجوداً حتى الآن، فالآثار الباقية من العصر الإسلامي الوسيط تعطينا صورة بديعة عن شكل الحياة في ذلك العصر، والذي تمثل بأفضل صوره في الزخارف الهندسية التي استخدمت بدقة في المساجد والأبنية التي بقيت لنا منذ ذلك العصر.
وقد استخدم الفنان المسلم منهجاً جديداً في فن الفسيفساء هو الذي حقق له تقطيع الفسيفساء بأشكال تميزه عن الفنون الأخرى، وتجلى هذا الاختلاف في أبهى صوره في ابتكار أشكال هندسية خماسية وسداسية، وقد شهدت مصر أروع أشكال الإبداع والابتكار في فن الفسيفساء، وخاصة في الأعمال الفنية التي تم الاستعانة فيها بالأنماط الهندسية، ومنها (المشكاة) ذات الفسيفساء الرخامية الملونة، أما في دول المغرب العربي فلا يزال الفنانون هناك يستخدمون الأنماط والأشكال النجمية والدائرية والخماسية والسداسية والرباعية والأشكال المعقوفة المصنوعة جميعها من مادة الرخام والخزف الملون، بحيث تعطي في تجميعها أشكالاً من الأطباق النجمية.
وقد استفاد فن الفسيفساء الإسلامي من فنون (الموزاييك) الأخرى التي سبقته، وقصة هذا الامتزاج والتفاعل بينهم تبدأ منذ فتح العرب لبلاد الشام حيث وجدوا هناك مدرسة فنية تنتمي إلى جذور ساسانية- هيلينية- بيزنطية، ووجدوا فنانين شوام تلقوا أساليبهم الفنية على أيدي فنانين من الروم، فاستفادوا من هذا الفن وقاموا بتطويره، وقد اكتشف العلامة الفرنسي (دي لوريه) أجزاء نمطية الشكل كانت مغطاة بالملاط في الجامع الأموي استخدم فيها الفنانون الفسيفساء في رسم منظر لنهر رائع على ضفته الداخلية أشجار ضخمة تطل على منظر طبيعي مليء بالرسوم لعمائر كثيرة بين الأشجار والغابات، ومن هذه العمائر رسم لملعب للخيل، ورسم آخر لقصور ذات طابقين وأعمدة جميلة، ورسم ثالث لفناء مربع الشكل وله سقف صيني الطراز، فضلاً عن عمائر صغيرة تبدو وكأنها مصنوعة بحيث تكون متراصة الواحدة فوق الأخرى، وفوق النهر توجد قنطرة تشبه قنطرة أخرى موجودة فوق نهر بردى في دمشق، مما جعل البعض يظنون أن هذه الرسوم قصد بها رسم مناظر من مدينة دمشق. إذن فقد تبلور فن الفسيفساء بعد أن اكتملت الهوية الفنية الإسلامية، واتخذ لنفسه هذا الأداء والأسلوب الإبداعي بعيداً عن فن (الموزاييك) الغربي الذي اعتمد علي استخدام قطع صغيرة متشابهة هندسياً، ولذلك فقد تميز الفن الإسلامي بمنهج خاص يظهر بوضوح في المساجد والعمائر الإسلامية التي استوحى منها الفنان المسلم روحه الفريدة وقيمه الأخلاقية والاجتماعية والدينية.
الزجاج المعشق بصفائح النحاس (