ليس من أحد له صلة بعلم الإجتماع أو الفلسفة إلا ويعرف"أوجست كومت" الذى ينسب إليه تأسيس هذا العلم.لكن القليل من الناس ومنهم طلاب العلم من يعرف أن هذا الفيلسوف بؤمن بأن الأديان ولدت من الخزعبلات القديمة. ويؤمن كذلك بأن الدين يجب أن يبقى شكلا، لكن محتواه لا بد أن يتغير. لهذا نادى"كومت" بتأسيس دين جديد هو"علم الإجتماع"، ولأن الدين لا بد له من أنبياء ورسل، كان أنبياء هذا الدين الجديد ورسله هم علماء الإجتماع.
ليس غريبا على علماء الإجتماع فى بلاد الغرب أن يمارسوا دور الأنبياء والرسل لكن الغريب أن يصدق رجال الاجتماع في مصر - بل وفى العالم العربي أيضا- ما قاله"كومت" أو يمارسونه عمليا دون أن يعرفوا ما رسمهم له هذا الفيلسوف.تصور رجال الإجتماع فى بلادنا أنهم طليعة هذه الأمة وضميرها، وأنهم القدوة والنموذج، كما كانوا يتصورون أيضا أنهم يملكون في أيديهم عناصر الترشيد الضرورية للمجتمع، وأنهم يستطيعون توصيف المراحل التي يمر بها المجتمع، وتحليل قواه الاجتماعية الفاعلة، وأنه بإمكانهم تقديم البدائل المتاحة أمامه.لقد وصل الأمر برجال الاجتماع إلى الاعتقاد بأن الخبير منهم يجب التبرك به.نبع هذا التصور الذاتي الوهمي المبالغ فيه من نظرتهم إلى المجتمع الذي لا يخرج عندهم عن كونه مجرد مجتمع من الجهلة والأميين والمرضى والجائعين والمتأخرين...الذين على رجال الاجتماع تنميتهم وعلاجهم وعصرنتهم أو تغريبهم، لأن الإنسان العربي -عموما- عندهم، إنسان تقليدي متأخر متخلف.
ومع مرور الزمن سقط هذا التصور إلى الحد الذي وصل بأحد أساتذة الاجتماع إلى الإقرار بأن علم الاجتماع ما هو إلا "شعوذة الأزمنة الحديثة"، ودعا زملاءه إلى الحد من الانبهار الساذج والتوكل الكلى على علم الاجتماع كمواقف تجعل منه عصا سحرية علمية.وتوالت بعد ذلك اعترافات رجال الاجتماع سواء في مصر أو العالم العربي لينتهوا إلى الإقرار- بأنفسهم- بحقيقة قاسية عليهم وعلينا، مفادها "أن علم الاجتماع ما هو إلا علم هامشي هزيل لا يرعاه ولا يشعر به إلا اتباعه ومريدوه وأصحاب المصالح الحيوية فيه، وأنه لم يساهم في صياغة مشكلة واحدة ولا تفسيرها ولا في اقتراح حل لها، وأن طالب المعرفة عن واقع المجتمع يجدها في أي كتابات أخرى إلا كتابات علم الاجتماع التي تتميز بالتخلف والسوء والخلط والاضطراب والنقل من مجتمعات أخرى، وأن رجال الاجتماع لا ينتجون علما حقيقيا وانما يستوردون ويستهلكون بدون تبصر ويخلطون في ذلك بين ما يمكن أن يفيد وما لا غناء فيه، ليست لهم مصداقية أو فاعلية، وأنهم مجرد جماعات مصالح وشلل متصارعة متحاربة، يعيشون في بلادهم بأجسامهم أما أفكارهم وفهمهم وتطلعاتهم ونظرتهم إلى الحياة فهي مع الخارج، ولا تنتهي أزمتهم إلى فقر أو عدم وجود أساس عندهم لقاعدة تفكير اجتماعي، بل تتعدى ذلك إلى تركيبتهم النفسية التي تميل إلى تحقير تراثهم العربي على العموم لأنه في نظرهم لا يتماشى أو يتلاءم مع قضايا الحياة العصرية".هذه هي عباراتهم كتبوها بأقلامهم، وأفصحوا عنها في مؤتمراتهم سواء في مصر أو في دول الخليج أو المغرب العربي.
أُلقيت أول محاضرات في علم الاجتماع في مصر في عام 1908 وهو عام تأسيس أول جامعة أهلية في مصر، وكانت الفترة من 1924 إلى 1936 هي فترة التحول التدريجي لما يسمونه بعلم الاجتماع العلمي.وبفعل تأثير الأفكار التي حملها رفاعة الطهطاوى والاحتكاك بالغرب في الحرب العالمية الأولى، تدفق إلى مصر كم من الأفكار الجديدة التي قال عنها رجال الاجتماع أنها تحدت الأفكار القديمة وأعدت لمرحلة الانقطاع عن الماضي.وشهد عام 1924 تأسيس الجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليا) كجامعة حكومية حلت محل الجامعة الأهلية.ألقيت في هذه الجامعة أول محاضرات منظمة في علم الاجتماع، ومع تأسيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة في منتصف العشرينيات شهدت مصر أول برنامج منظم في علم الاجتماع.أما أول كراسي الأستاذية في علم الاجتماع في مصر، فقد شغلها بالطبع أساتذة أجانب بارزون، على رأسهم "ايفانز برتشارد (1932-1934)"، و"آرثر موريس هو كارت (1934-1938)"، وفى جامعة الإسكندرية شغل كراسي الأستاذية في علم الاجتماع أساتذة غربيون بارزون على رأسهم "راد كليف برا ون" و "ردنك أورلخ".وشهدت هذه الفترة انتشار أفكار الفلسفة الوضعية لأوجست كونت والمدرسة الفرنسية في علم الاجتماع والمدرسة الأنثروبولوجية البريطانية والأفكار التحررية السائدة في الغرب.
نما علم الاجتماع في مصر والعالم العربي بصورة سريعة واستطاع تعريف موضوعاته وأهدافه وإمكانياته.وإذا قيست الفترة الزمنية التي رسخ فيها هذا العلم في الجامعات المصرية والعربية مقارنة بعدد خريجيه، لعد ذلك تقدما ملحوظا لم يصل إلى نظيره في الجامعات الغربية والشرقية في الفترة ذاتها.كما شهد علم الاجتماع في تطوره الأكاديمي التنظيمي مراحل توسع ضخمة تركز أكثرها خلال السبعينيات حيث افتتحت أقسام عديدة لعلم الاجتماع في الجامعات العربية، سواء في مصر على امتداد رقعتها من القاهرة حتى أسوان، أو على امتداد الوطن العربي من الكويت وبغداد والدوحة والإمارات شرقا حتى فاس والرباط غربا مرورا بكل الجامعات الكبيرة والصغيرة حتى تلك الجامعات الدينية كجامعة الأزهر وجامعة الأمام محمد ابن سعود الإسلامية - على حد قول أساتذة الاجتماع أنفسهم.
لم يكن باستطاعة علم الاجتماع أن ينمو دون أن يقدم مزاعم عريضة عن فائدته المجتمعية العامة وأهلية ممارسيه واحترافهم ولم يتردد ممارسوه أن يعلنوا منذ البداية بأن علمهم يعد "وصفة طبية ناجحة لعلاج جميع أمراض مجتمعهم"، ولهذا دخل علم الإجتماع فى نصف القرن الأخير، ضمن مناهج الدراسات الجامعية في أقسام وشعب متخصصة، يصل عددها إلى حوالي ثلاثين شعبة، وبعد أن كان يدرس في البداية على أيدي هواة من المتخصصين في فروع معرفية أخرى، سرعان ما أصبح تدريسه على أيدي متخصصين في علم الاجتماع ذاته من الحاصلين على الدكتوراه فيه، وحتى عشر سنوات مضت وصل عدد الطلاب المتخصصين في علم الاجتماع في الجامعات والكليات العربية إلى أكثر من عشرة آلاف طالب على الأقل، كما يوجد في الوطن العربي مالا يقل عن خمسة عشر مركزا بحثيا في علم الاجتماع أو في بعض فروعه، ويظهر فـى في المتوسط حوالي مائة كتاب سنويا يؤلفها أساتذة الاجتماع العرب، هذا بالإضافة إلى مئات من الأوراق والمقالات والتقارير البحثية والاستشارية، علاوة على العديد من المجلات أكاديمية المتخصصة في علم الاجتماع.
ولكن: ماالذى استفادته مصر - أو حتى العالم العربي - من علم الاجتماع بعد ما قرن كامل من دخوله إليها؟
لنترك رجال الاجتماع في مصر يتحدثون بأنفسهم عن ذلك:
الدكتور "سعد الدين إبراهيم" أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية يجيب على سؤال مفاده: "هل يستطيع الوطن العربي أن يعيش ويزدهر بدون علماء اجتماع؟"أجاب سعد الدين إبراهيم عن هذا السؤال الذي راوده طويلا بعد جولته فيما أسماه "بالضمير السوسيولوجى" بالآتي:"...حتى لا أطيل في المقدمات فان إجابتي الشخصية على السؤال بكل الصدق المؤلم هي أنه (نعم).نعم يستطيع مجتمعنا أن يعيش ويتقدم بدون علماء الأجتماع العرب، ولكي أخفف على نفسي ألم الإجابة حاولت توجيه هذا السؤال نفسه بالنسبة إلى فئات أخرى في المجتمع، وخلصت إلى أن هناك فئات عديدة لا يستطيع المجتمع أن يعيش بدونها أهمها: المهندسون والأطباء والعلماء وخبراء التكنولوجيا والاقتصاد..أما علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والنفس والسياسة وفئات أخرى عديدة فيمكن للمجتمع أن يعيش ويتقدم بغيرها.وبشكل آخر لو وضعنا السؤال: ماذا يحدث للوطن العربي إذا اختفى كل علماء الاجتماع فجأة؟ الإجابة هي: لا شيء يحدث للمجتمع سلبا أو إيجابا، وينطبق ذلك على فئات مهنية عديدة كما ينطبق على مجتمعات أخرى عديدة.وبالمقابل هناك مجتمعات تقدمت في العصر الحديث دون أن يوجد فيها فئة مهنية تسمى علماء الاجتماع، مثل اليابان إلى ثلاثينيات هذا القرن، والصين إلى عقود متأخرة من هذا القرن..كذلك ليس هناك ما يثبت قطعيا أن بريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة ماكان لها أن تتقدم خلال القرنين الأخيرين لولا علماء الاجتماع فيها.وما أريد أن أخلص إليه هو أن علماء الاجتماع كفئة مهنية متخصصة ليست ضرورية في المجتمع الحديث، وبالطبع لم تكن ضرورية في المجتمع التقليدي".
ولسعد الدين إبراهيم اعترافات أخرى في هذا الموضوع نجملها في الآتي:
1- أنه منذ الحرب العالمية الأولى واستقلال الدول العربية لم تظهر مساهمة علمية يعتد بها الوطن العربي.
2- أن المتخصصين لم يساهموا بالقدر الكافي أو الدرجة المطلوبة في صياغة مشكلات المجتمع العربي وتفسيرها أو في اقتراح الحلول المطلوبة لهذه المشكلات.
3- أن المعرفة التي أنتجها علماء الاجتماع معرفة هزيلة، وأن وجودهم هامشي وتأثيرهم على المجتمع محدود، أما المعرفة التي يجدها الناس في الكتابات الصحفية والأدبية أو في أعمال بعض المشتغلين بالتاريخ والجغرافيا أو الفلسفة، قد لا تكون هذه المعرفة بالضرورة دقيقة وعميقة لكنها على الأقل متوفرة ومفهومة.
4- أنه يندر أن يأتى المتخصص في علم الاجتماع بمحض أرادته ورغبته وانما غالبا ما يأتى الطلاب إلى علم الاجتماع بمحض الصدفة، أو لعدم وجود بديل أفضل.
5-بالنسبة للمؤلفات العربية في علم الاجتماع، نادرا ما يجد طالب المعرفة إنتاجا سوسيولوجيا عربيا يطفئ ظمأه لفهم الواقع العربي المعاصر بصورة منضبطة أو موضوعية أو شاملة أو حتى جزئية، فأكثر من ثمانين بالمائة من إنتاج أساتذة الاجتماع يكاد ينصرف كلية إلى الكتب المدرسية التي تحاول أن تعلم الطلاب مبادئ العلم وفروعه ونظرياته وتاريخه، لكنها أي هذه الكتب المدرسية مليئة بالعيوب والثغرات أهمها أنها:
أ- تضخم الوعود بقدرات علم الاجتماع على فهم الواقع والتعامل الفاعل مع المشكلات الاجتماعية.
ب- تعتمد اعتمادا شبه كامل على مصادر المعرفة الأجنبية والترجمة المباشرة أو من خلال آخرين.
ج - تتسم بالتعقيد اللغوي والمعنوي عند طرحها لمفاهيم ومقولات علم الاجتماع، إما للإيحاء بجهبذة فكرية أو في الغالب لعدم الفهم والاستيعاب لما يتم نقله من مصادر أجنبية.
د- يندر أن تجد في هذه الكتب ما يعبر عن الواقع العربي قطريا أو قوميا.بالإضافة إلى سطحية وتجزيئية القليل النادر الذي يرد فيها عن الواقع العربي وعدم استناده إلى قاعدة صلبة من المعلومات.
ويرى سعد الدين إبراهيم أن المشتغلين بعلم الاجتماع في مصر لا يشكلون مجتمعا مهنيا حقيقيا، وانما هم جماعات ومصالح وشلل تتصارع مع بعضها، ويسيطر أحدها على الآخر، وأنهم قد قسموا أنفسهم إلى ما يسميه بالقبائل التي اتخذت أسماء ومسميات مختلفة فهناك النظريون وهناك التطبيقيون وهناك الماركسيون والوظيفيون وهناك أتباع المدرسة الإنجليزية أو الأمريكية أو السوفيتية.....الخ.
ويتفق الكثيرون - حتى من غير رجال الاجتماع في مصر- مع سعد الدين إبراهيم- في ملاحظاته هذه.الدكتور جلال أمين الأستاذ بالجامعة الأمريكية أيضا له موقف خاص من الباحثين الاجتماعيين في مصر، وقد وجه إليهم عدة انتقادات حادة،يمكن إجمالها فيما يلي:-
أولا:- أن دراساتهم تفتقر إلى الابتكار الحقيقي، سواء أكان هذا الابتكار متعلقا بإيجاد منهج جديد في البحث أو بإثارة الشك في بعض المسلمات، أو بتقديم تفسير جديد لظاهرة اجتماعية معقدة.
ثانيا:- أنهم مهزومون نفسيا، خاضعون ومبجلون لكل منجزات الأجنبي بحيث سهل على هذا الأجنبي أن يبيع بضاعته المادية والفكرية على أنها نتاج إنساني عام وأنها ثمرة التقدم التكنولوجي والمادي الذي لا ينسب لحضارة دون أخرى مخفيا - هذا الأجنبي- تحيرانه وميوله التي تطبع لنتاجه الفكري والمادي.وتقبل الباحثون هذه النظريات دون مساءلة وافتتنوا بها كما افتتن المستهلك العادي بالكفاءة التكنولوجية العالية للتليفزيون الملون، دون أن ينظر هذا أو ذاك في مدى ملاءمة النظرية أو السلعة لمناخ اجتماعي وثقافي مختلف تماما عن المناخ الذي أبدع تلك النظرية أو السلعة.
ثالثا:- أنهم تابعون في مختلف جوانب حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فالدراسات الاجتماعية في مصر تهتم بقضايا نظرية أو تطبيقية ذات أهمية فقط في البلاد التي نشأت فيها وليس في مصر، نقلها هؤلاء الباحثون دون إعمال الفكر في مدى انطباقها أو ملاءمتها لمجتمعنا، ودون محاولة جدية في التحفظ على ما تحمله من أفكار.
رابعا:- أن كتاباتهم تتميز بالتبعية في لغة التعبير مع ميلهم إلى إقحام الألفاظ الأجنبية في هذه الكتابات كدليل على سعة العلم وتنوع الثقافة وبالرغم من ذلك فإنها كتابات ركيكة الأسلوب وهى في نفس الوقت أكثر غموضا وتخبطا وتناقضا، ورفض جلال أمين الإدعاء، بأنه من المهم التعبير عن الفكرة على أي نحو كان لأن التبعية في لغة التعبير وثيقة الصلة بالتبعية في مضمون الفكر تؤدى كل منهما إلى الأخرى وتقويها، وأنه من كان تابعا في فكر غيره استسهل التضحية بلغته، والاستسهال بالتضحية باللغة يؤدى إلى التورط أكثر فأكثر في قبول مالا يتعين قبوله من الفكر الأجنبي، فاللغة نفسها في كثير من الأحيان تعكس مواقف قيميه وتفضيلات خاصة وأنها لا تتمتع دائما بدرجة الحياد التي تزعمها.
خامسا:- أنهم ساروا وراء الغرب حتى فيما يسمى (بالأناقة النظرية) التي هى نوع من الترف الفكري لا يختلف عن استهلاك السلع الكمالية.في حين أن مصر ليست في حاجة إلى مثل هذه الأناقة النظرية.
ولفت جلال أمين الانتباه إلى أن العلوم الاجتماعية في الغرب قد عجزت عن تقديم تشخيص لبعض من أهم المشكلات الاجتماعية التي واجهها الغرب كمشكلة العنف وانتشار المخدرات ولا زال العلماء الاجتماعيون الغربيون عاجزون عن فهم ما يجرى في السياسة والمجتمع وانصرفوا إلى القضايا الجزئية دون التعرض للمشكلات الجوهرية فتحولوا إلى باحثين متخصصين ضيقي الأفق.
أما علماء الإجتماع العرب من خارج مصر فقد أقروا:
أولا: بأن القاهرة والرباط وتونس واليمن ودول الخليج تتمتع بنشاط ملحوظ ومسموع لرجال الاجتماع، لكن رجال الإجتماع هؤلاء يتبنون اتجاهات تتأرجح بين نظريات الصراع والتوازن في النظرية الاجتماعية، ينقلون أفكارها ويعرفون تماما أن دورهم هو دور النادل الذي يقدم الطعام دون أن تكون له أية مسؤولية في إعداده، فهم لم يشاركوا في صياغة هذه النظريات التي يرددونها بشكل آلي.
وأقروا ثانيا: بأن تدريس علم الاجتماع لا يعد ضرورة من ضرورات المعرفة والواقع، وأنه لو ألغى هذا الاختصاص من جامعاتنا فإن غيابه لن يكون نقصا ولا تخلفا معرفيا.
وأقروا ثالثا: بأن النزعة العلمية في علم الاجتماع نزعة مزيفة وأن الشروط التي حددها العلماء في أي معرفة لكي تكون علما لا تتوافر في علم الاجتماع.
ورابعا: أكد البعض من علماء الإجتماع على نظرة"جاك بيرك"بأن علم الاجتماع علم استعماري بطبيعته، وأنه على صلة وثيقة بأعمال المخابرات وأنه أعد بحثا وتدريسا ليكون عقل رجال الاجتماع العرب تابعا للعقل السوسيولوجى الغربي، سواء في منهجية التفكير أو تصور مهام علم الاجتماع، وأنه حينما رحل الاستعمار عن العالم العربي ترك وراءه من الترتيبات المؤسسية والفكرية ما يعيد سيطرته وهيمنته والتبعية له.
كما أقروا خامسا: بأن رجال الاجتماع العرب يعانون من عدم وضوح الرؤية في النظرية وفى البحث الاجتماعي، وأنهم يميلون في معظم الأحيان إلى نقد كل ما يطرح في المجتمعات الغربية دون التوصل إلى نظرية للمجتمع العربي وان إشكاليات بحوثهم لا تمت بصلة إلى الواقع المجتمعي العربي.
ومن الناحية المنهجية لم يسلم البحث الاجتماعي في مصر والمؤسسات البحثية من انتقادات رجال الاجتماع عامة والعاملين منهم في هذه المؤسسات خاصة.وقد وجه الأكاديميون والعاملون في مراكز البحوث من رجال الاجتماع انتقادات لا تقل حدة عن سابقتها إلى البحث الاجتماعي ومؤسساته في مصر يمكن إيجازها فيما يلي:
أولا: تأسست معظم مؤسسات البحث الاجتماعي في مصر بدون هدف واضح عام، ونظمت بطريقة بدائية قاصرة ولا تستقطب إلا القليل من العناصر القادرة على العطاء، كما يستغل جهد الباحثين فيها بطريقة عاجزة معيبة ولهذا نجدها لم تنجح في تناول القضايا الحيوية في المجتمع العربي بالتحليل، بل ولم توفق في دراسة ما عرضت له من موضوعات.
ثانيا: البحوث الاجتماعية ظلت أمدا بعيدا على تخلفها، معظمها مبعثر غير هادف، وغير متكامل مع قطاعات الإنتاج والخدمات والسياسة والثقافة والتعليم، فهي لا تستمد المشكلات البحثية من هذه القطاعات ولا تفيد في ترشيد أي قرارات ولا تلعب دورا في تكوين وعى اجتماعي على أساس علمي، وهى غير موجهة لمشكلات الجماهير ولا تهدف إلى مخاطبتها لأنها تكتب بلغة الخاصة، لغة المفهومات والمصطلحات الغامضة التي لا تمت بأي صلة إلى واقع هذه الجماهير وخصائصها، بالإضافة إلى أنها تتناول القضايا بعد حدوثها أو تتناول هذه القضايا ذات الطابع السلبي من وجهة نظر البنية الاجتماعية.ولهذا فقلما يكون لنتائج هذه البحوث هذا الدور الفعال في التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ثالثا: المشكلات الاجتماعية التي تتناولها هذه البحوث تتبنى مفاهيما تجمدت أصلا في المجتمعات الغربية حاول الباحثون أن يجدوا لها تطبيقات عربية، وتقوم أساسا على اختيار فكرة من هنا ومن هناك ثم اختيار عينة عشوائية عمدية في معظم الأحيان ثم تصميم استمارة بغض النظر عن ملاءمتها أو عدم ملاءمتها لموضوع البحث ثم استطراد في عرض جداول طولية وعرضية ونسب مئوية للبيانات، وتخرج ببيانات من صنع صاحبها يصيغها ليحاصر بها المبحوث فيجيب اجابات يريدها الباحث إما بنعم أو بلا.
رابعا: المداخل المنهجية المستخدمة في البحوث الاجتماعية قاصرة وتستخدم أساليب بحث وأدوات لجمع المعلومات معيبة وهى أصلا مستوردة من سياق حضاري مختلف، ولا يدرك الباحثون أن أساليـب وأدوات البحث الاجتماعي ذاتها ليست محايدة على الإطلاق وينطوي إعدادها واستعمالها على أبعاد إيديولوجية تقوم على أساس أن أطراف عملية جمع المعلومات أطراف مجردة بلا وعى ولا رغبات ولا احباطات ولا تحبزات وما إلى ذلك مما يؤثر على عائد البحث.
إذا كان هذا هو حال علم الاجتماع في مصر - بل وفى الوطن العربي- وحال المشتغلين به، وحال مؤسساته البحثية بعد مرور ما يقرب من مائة عام من دخوله إلى مصر والعالم العربى، فهل يلزمنا أن ننتظر مائة عام أخرى لمواجهة وعلاج كل هذه المثالب التي أشرنا إليها ثم نبدأ مرة أخرى من الصفر؟ أم أن نبحث عن الطريق الصحيح لمواجهة الواقع الاجتماعى المر الذى ينحدر بمجتمعاتنا كل يوم من سيئ إلى أسوأ؟
رابط الموضوع: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]
ليس غريبا على علماء الإجتماع فى بلاد الغرب أن يمارسوا دور الأنبياء والرسل لكن الغريب أن يصدق رجال الاجتماع في مصر - بل وفى العالم العربي أيضا- ما قاله"كومت" أو يمارسونه عمليا دون أن يعرفوا ما رسمهم له هذا الفيلسوف.تصور رجال الإجتماع فى بلادنا أنهم طليعة هذه الأمة وضميرها، وأنهم القدوة والنموذج، كما كانوا يتصورون أيضا أنهم يملكون في أيديهم عناصر الترشيد الضرورية للمجتمع، وأنهم يستطيعون توصيف المراحل التي يمر بها المجتمع، وتحليل قواه الاجتماعية الفاعلة، وأنه بإمكانهم تقديم البدائل المتاحة أمامه.لقد وصل الأمر برجال الاجتماع إلى الاعتقاد بأن الخبير منهم يجب التبرك به.نبع هذا التصور الذاتي الوهمي المبالغ فيه من نظرتهم إلى المجتمع الذي لا يخرج عندهم عن كونه مجرد مجتمع من الجهلة والأميين والمرضى والجائعين والمتأخرين...الذين على رجال الاجتماع تنميتهم وعلاجهم وعصرنتهم أو تغريبهم، لأن الإنسان العربي -عموما- عندهم، إنسان تقليدي متأخر متخلف.
ومع مرور الزمن سقط هذا التصور إلى الحد الذي وصل بأحد أساتذة الاجتماع إلى الإقرار بأن علم الاجتماع ما هو إلا "شعوذة الأزمنة الحديثة"، ودعا زملاءه إلى الحد من الانبهار الساذج والتوكل الكلى على علم الاجتماع كمواقف تجعل منه عصا سحرية علمية.وتوالت بعد ذلك اعترافات رجال الاجتماع سواء في مصر أو العالم العربي لينتهوا إلى الإقرار- بأنفسهم- بحقيقة قاسية عليهم وعلينا، مفادها "أن علم الاجتماع ما هو إلا علم هامشي هزيل لا يرعاه ولا يشعر به إلا اتباعه ومريدوه وأصحاب المصالح الحيوية فيه، وأنه لم يساهم في صياغة مشكلة واحدة ولا تفسيرها ولا في اقتراح حل لها، وأن طالب المعرفة عن واقع المجتمع يجدها في أي كتابات أخرى إلا كتابات علم الاجتماع التي تتميز بالتخلف والسوء والخلط والاضطراب والنقل من مجتمعات أخرى، وأن رجال الاجتماع لا ينتجون علما حقيقيا وانما يستوردون ويستهلكون بدون تبصر ويخلطون في ذلك بين ما يمكن أن يفيد وما لا غناء فيه، ليست لهم مصداقية أو فاعلية، وأنهم مجرد جماعات مصالح وشلل متصارعة متحاربة، يعيشون في بلادهم بأجسامهم أما أفكارهم وفهمهم وتطلعاتهم ونظرتهم إلى الحياة فهي مع الخارج، ولا تنتهي أزمتهم إلى فقر أو عدم وجود أساس عندهم لقاعدة تفكير اجتماعي، بل تتعدى ذلك إلى تركيبتهم النفسية التي تميل إلى تحقير تراثهم العربي على العموم لأنه في نظرهم لا يتماشى أو يتلاءم مع قضايا الحياة العصرية".هذه هي عباراتهم كتبوها بأقلامهم، وأفصحوا عنها في مؤتمراتهم سواء في مصر أو في دول الخليج أو المغرب العربي.
أُلقيت أول محاضرات في علم الاجتماع في مصر في عام 1908 وهو عام تأسيس أول جامعة أهلية في مصر، وكانت الفترة من 1924 إلى 1936 هي فترة التحول التدريجي لما يسمونه بعلم الاجتماع العلمي.وبفعل تأثير الأفكار التي حملها رفاعة الطهطاوى والاحتكاك بالغرب في الحرب العالمية الأولى، تدفق إلى مصر كم من الأفكار الجديدة التي قال عنها رجال الاجتماع أنها تحدت الأفكار القديمة وأعدت لمرحلة الانقطاع عن الماضي.وشهد عام 1924 تأسيس الجامعة المصرية (جامعة القاهرة حاليا) كجامعة حكومية حلت محل الجامعة الأهلية.ألقيت في هذه الجامعة أول محاضرات منظمة في علم الاجتماع، ومع تأسيس الجامعة الأمريكية بالقاهرة في منتصف العشرينيات شهدت مصر أول برنامج منظم في علم الاجتماع.أما أول كراسي الأستاذية في علم الاجتماع في مصر، فقد شغلها بالطبع أساتذة أجانب بارزون، على رأسهم "ايفانز برتشارد (1932-1934)"، و"آرثر موريس هو كارت (1934-1938)"، وفى جامعة الإسكندرية شغل كراسي الأستاذية في علم الاجتماع أساتذة غربيون بارزون على رأسهم "راد كليف برا ون" و "ردنك أورلخ".وشهدت هذه الفترة انتشار أفكار الفلسفة الوضعية لأوجست كونت والمدرسة الفرنسية في علم الاجتماع والمدرسة الأنثروبولوجية البريطانية والأفكار التحررية السائدة في الغرب.
نما علم الاجتماع في مصر والعالم العربي بصورة سريعة واستطاع تعريف موضوعاته وأهدافه وإمكانياته.وإذا قيست الفترة الزمنية التي رسخ فيها هذا العلم في الجامعات المصرية والعربية مقارنة بعدد خريجيه، لعد ذلك تقدما ملحوظا لم يصل إلى نظيره في الجامعات الغربية والشرقية في الفترة ذاتها.كما شهد علم الاجتماع في تطوره الأكاديمي التنظيمي مراحل توسع ضخمة تركز أكثرها خلال السبعينيات حيث افتتحت أقسام عديدة لعلم الاجتماع في الجامعات العربية، سواء في مصر على امتداد رقعتها من القاهرة حتى أسوان، أو على امتداد الوطن العربي من الكويت وبغداد والدوحة والإمارات شرقا حتى فاس والرباط غربا مرورا بكل الجامعات الكبيرة والصغيرة حتى تلك الجامعات الدينية كجامعة الأزهر وجامعة الأمام محمد ابن سعود الإسلامية - على حد قول أساتذة الاجتماع أنفسهم.
لم يكن باستطاعة علم الاجتماع أن ينمو دون أن يقدم مزاعم عريضة عن فائدته المجتمعية العامة وأهلية ممارسيه واحترافهم ولم يتردد ممارسوه أن يعلنوا منذ البداية بأن علمهم يعد "وصفة طبية ناجحة لعلاج جميع أمراض مجتمعهم"، ولهذا دخل علم الإجتماع فى نصف القرن الأخير، ضمن مناهج الدراسات الجامعية في أقسام وشعب متخصصة، يصل عددها إلى حوالي ثلاثين شعبة، وبعد أن كان يدرس في البداية على أيدي هواة من المتخصصين في فروع معرفية أخرى، سرعان ما أصبح تدريسه على أيدي متخصصين في علم الاجتماع ذاته من الحاصلين على الدكتوراه فيه، وحتى عشر سنوات مضت وصل عدد الطلاب المتخصصين في علم الاجتماع في الجامعات والكليات العربية إلى أكثر من عشرة آلاف طالب على الأقل، كما يوجد في الوطن العربي مالا يقل عن خمسة عشر مركزا بحثيا في علم الاجتماع أو في بعض فروعه، ويظهر فـى في المتوسط حوالي مائة كتاب سنويا يؤلفها أساتذة الاجتماع العرب، هذا بالإضافة إلى مئات من الأوراق والمقالات والتقارير البحثية والاستشارية، علاوة على العديد من المجلات أكاديمية المتخصصة في علم الاجتماع.
ولكن: ماالذى استفادته مصر - أو حتى العالم العربي - من علم الاجتماع بعد ما قرن كامل من دخوله إليها؟
لنترك رجال الاجتماع في مصر يتحدثون بأنفسهم عن ذلك:
الدكتور "سعد الدين إبراهيم" أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية يجيب على سؤال مفاده: "هل يستطيع الوطن العربي أن يعيش ويزدهر بدون علماء اجتماع؟"أجاب سعد الدين إبراهيم عن هذا السؤال الذي راوده طويلا بعد جولته فيما أسماه "بالضمير السوسيولوجى" بالآتي:"...حتى لا أطيل في المقدمات فان إجابتي الشخصية على السؤال بكل الصدق المؤلم هي أنه (نعم).نعم يستطيع مجتمعنا أن يعيش ويتقدم بدون علماء الأجتماع العرب، ولكي أخفف على نفسي ألم الإجابة حاولت توجيه هذا السؤال نفسه بالنسبة إلى فئات أخرى في المجتمع، وخلصت إلى أن هناك فئات عديدة لا يستطيع المجتمع أن يعيش بدونها أهمها: المهندسون والأطباء والعلماء وخبراء التكنولوجيا والاقتصاد..أما علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا والنفس والسياسة وفئات أخرى عديدة فيمكن للمجتمع أن يعيش ويتقدم بغيرها.وبشكل آخر لو وضعنا السؤال: ماذا يحدث للوطن العربي إذا اختفى كل علماء الاجتماع فجأة؟ الإجابة هي: لا شيء يحدث للمجتمع سلبا أو إيجابا، وينطبق ذلك على فئات مهنية عديدة كما ينطبق على مجتمعات أخرى عديدة.وبالمقابل هناك مجتمعات تقدمت في العصر الحديث دون أن يوجد فيها فئة مهنية تسمى علماء الاجتماع، مثل اليابان إلى ثلاثينيات هذا القرن، والصين إلى عقود متأخرة من هذا القرن..كذلك ليس هناك ما يثبت قطعيا أن بريطانيا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة ماكان لها أن تتقدم خلال القرنين الأخيرين لولا علماء الاجتماع فيها.وما أريد أن أخلص إليه هو أن علماء الاجتماع كفئة مهنية متخصصة ليست ضرورية في المجتمع الحديث، وبالطبع لم تكن ضرورية في المجتمع التقليدي".
ولسعد الدين إبراهيم اعترافات أخرى في هذا الموضوع نجملها في الآتي:
1- أنه منذ الحرب العالمية الأولى واستقلال الدول العربية لم تظهر مساهمة علمية يعتد بها الوطن العربي.
2- أن المتخصصين لم يساهموا بالقدر الكافي أو الدرجة المطلوبة في صياغة مشكلات المجتمع العربي وتفسيرها أو في اقتراح الحلول المطلوبة لهذه المشكلات.
3- أن المعرفة التي أنتجها علماء الاجتماع معرفة هزيلة، وأن وجودهم هامشي وتأثيرهم على المجتمع محدود، أما المعرفة التي يجدها الناس في الكتابات الصحفية والأدبية أو في أعمال بعض المشتغلين بالتاريخ والجغرافيا أو الفلسفة، قد لا تكون هذه المعرفة بالضرورة دقيقة وعميقة لكنها على الأقل متوفرة ومفهومة.
4- أنه يندر أن يأتى المتخصص في علم الاجتماع بمحض أرادته ورغبته وانما غالبا ما يأتى الطلاب إلى علم الاجتماع بمحض الصدفة، أو لعدم وجود بديل أفضل.
5-بالنسبة للمؤلفات العربية في علم الاجتماع، نادرا ما يجد طالب المعرفة إنتاجا سوسيولوجيا عربيا يطفئ ظمأه لفهم الواقع العربي المعاصر بصورة منضبطة أو موضوعية أو شاملة أو حتى جزئية، فأكثر من ثمانين بالمائة من إنتاج أساتذة الاجتماع يكاد ينصرف كلية إلى الكتب المدرسية التي تحاول أن تعلم الطلاب مبادئ العلم وفروعه ونظرياته وتاريخه، لكنها أي هذه الكتب المدرسية مليئة بالعيوب والثغرات أهمها أنها:
أ- تضخم الوعود بقدرات علم الاجتماع على فهم الواقع والتعامل الفاعل مع المشكلات الاجتماعية.
ب- تعتمد اعتمادا شبه كامل على مصادر المعرفة الأجنبية والترجمة المباشرة أو من خلال آخرين.
ج - تتسم بالتعقيد اللغوي والمعنوي عند طرحها لمفاهيم ومقولات علم الاجتماع، إما للإيحاء بجهبذة فكرية أو في الغالب لعدم الفهم والاستيعاب لما يتم نقله من مصادر أجنبية.
د- يندر أن تجد في هذه الكتب ما يعبر عن الواقع العربي قطريا أو قوميا.بالإضافة إلى سطحية وتجزيئية القليل النادر الذي يرد فيها عن الواقع العربي وعدم استناده إلى قاعدة صلبة من المعلومات.
ويرى سعد الدين إبراهيم أن المشتغلين بعلم الاجتماع في مصر لا يشكلون مجتمعا مهنيا حقيقيا، وانما هم جماعات ومصالح وشلل تتصارع مع بعضها، ويسيطر أحدها على الآخر، وأنهم قد قسموا أنفسهم إلى ما يسميه بالقبائل التي اتخذت أسماء ومسميات مختلفة فهناك النظريون وهناك التطبيقيون وهناك الماركسيون والوظيفيون وهناك أتباع المدرسة الإنجليزية أو الأمريكية أو السوفيتية.....الخ.
ويتفق الكثيرون - حتى من غير رجال الاجتماع في مصر- مع سعد الدين إبراهيم- في ملاحظاته هذه.الدكتور جلال أمين الأستاذ بالجامعة الأمريكية أيضا له موقف خاص من الباحثين الاجتماعيين في مصر، وقد وجه إليهم عدة انتقادات حادة،يمكن إجمالها فيما يلي:-
أولا:- أن دراساتهم تفتقر إلى الابتكار الحقيقي، سواء أكان هذا الابتكار متعلقا بإيجاد منهج جديد في البحث أو بإثارة الشك في بعض المسلمات، أو بتقديم تفسير جديد لظاهرة اجتماعية معقدة.
ثانيا:- أنهم مهزومون نفسيا، خاضعون ومبجلون لكل منجزات الأجنبي بحيث سهل على هذا الأجنبي أن يبيع بضاعته المادية والفكرية على أنها نتاج إنساني عام وأنها ثمرة التقدم التكنولوجي والمادي الذي لا ينسب لحضارة دون أخرى مخفيا - هذا الأجنبي- تحيرانه وميوله التي تطبع لنتاجه الفكري والمادي.وتقبل الباحثون هذه النظريات دون مساءلة وافتتنوا بها كما افتتن المستهلك العادي بالكفاءة التكنولوجية العالية للتليفزيون الملون، دون أن ينظر هذا أو ذاك في مدى ملاءمة النظرية أو السلعة لمناخ اجتماعي وثقافي مختلف تماما عن المناخ الذي أبدع تلك النظرية أو السلعة.
ثالثا:- أنهم تابعون في مختلف جوانب حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فالدراسات الاجتماعية في مصر تهتم بقضايا نظرية أو تطبيقية ذات أهمية فقط في البلاد التي نشأت فيها وليس في مصر، نقلها هؤلاء الباحثون دون إعمال الفكر في مدى انطباقها أو ملاءمتها لمجتمعنا، ودون محاولة جدية في التحفظ على ما تحمله من أفكار.
رابعا:- أن كتاباتهم تتميز بالتبعية في لغة التعبير مع ميلهم إلى إقحام الألفاظ الأجنبية في هذه الكتابات كدليل على سعة العلم وتنوع الثقافة وبالرغم من ذلك فإنها كتابات ركيكة الأسلوب وهى في نفس الوقت أكثر غموضا وتخبطا وتناقضا، ورفض جلال أمين الإدعاء، بأنه من المهم التعبير عن الفكرة على أي نحو كان لأن التبعية في لغة التعبير وثيقة الصلة بالتبعية في مضمون الفكر تؤدى كل منهما إلى الأخرى وتقويها، وأنه من كان تابعا في فكر غيره استسهل التضحية بلغته، والاستسهال بالتضحية باللغة يؤدى إلى التورط أكثر فأكثر في قبول مالا يتعين قبوله من الفكر الأجنبي، فاللغة نفسها في كثير من الأحيان تعكس مواقف قيميه وتفضيلات خاصة وأنها لا تتمتع دائما بدرجة الحياد التي تزعمها.
خامسا:- أنهم ساروا وراء الغرب حتى فيما يسمى (بالأناقة النظرية) التي هى نوع من الترف الفكري لا يختلف عن استهلاك السلع الكمالية.في حين أن مصر ليست في حاجة إلى مثل هذه الأناقة النظرية.
ولفت جلال أمين الانتباه إلى أن العلوم الاجتماعية في الغرب قد عجزت عن تقديم تشخيص لبعض من أهم المشكلات الاجتماعية التي واجهها الغرب كمشكلة العنف وانتشار المخدرات ولا زال العلماء الاجتماعيون الغربيون عاجزون عن فهم ما يجرى في السياسة والمجتمع وانصرفوا إلى القضايا الجزئية دون التعرض للمشكلات الجوهرية فتحولوا إلى باحثين متخصصين ضيقي الأفق.
أما علماء الإجتماع العرب من خارج مصر فقد أقروا:
أولا: بأن القاهرة والرباط وتونس واليمن ودول الخليج تتمتع بنشاط ملحوظ ومسموع لرجال الاجتماع، لكن رجال الإجتماع هؤلاء يتبنون اتجاهات تتأرجح بين نظريات الصراع والتوازن في النظرية الاجتماعية، ينقلون أفكارها ويعرفون تماما أن دورهم هو دور النادل الذي يقدم الطعام دون أن تكون له أية مسؤولية في إعداده، فهم لم يشاركوا في صياغة هذه النظريات التي يرددونها بشكل آلي.
وأقروا ثانيا: بأن تدريس علم الاجتماع لا يعد ضرورة من ضرورات المعرفة والواقع، وأنه لو ألغى هذا الاختصاص من جامعاتنا فإن غيابه لن يكون نقصا ولا تخلفا معرفيا.
وأقروا ثالثا: بأن النزعة العلمية في علم الاجتماع نزعة مزيفة وأن الشروط التي حددها العلماء في أي معرفة لكي تكون علما لا تتوافر في علم الاجتماع.
ورابعا: أكد البعض من علماء الإجتماع على نظرة"جاك بيرك"بأن علم الاجتماع علم استعماري بطبيعته، وأنه على صلة وثيقة بأعمال المخابرات وأنه أعد بحثا وتدريسا ليكون عقل رجال الاجتماع العرب تابعا للعقل السوسيولوجى الغربي، سواء في منهجية التفكير أو تصور مهام علم الاجتماع، وأنه حينما رحل الاستعمار عن العالم العربي ترك وراءه من الترتيبات المؤسسية والفكرية ما يعيد سيطرته وهيمنته والتبعية له.
كما أقروا خامسا: بأن رجال الاجتماع العرب يعانون من عدم وضوح الرؤية في النظرية وفى البحث الاجتماعي، وأنهم يميلون في معظم الأحيان إلى نقد كل ما يطرح في المجتمعات الغربية دون التوصل إلى نظرية للمجتمع العربي وان إشكاليات بحوثهم لا تمت بصلة إلى الواقع المجتمعي العربي.
ومن الناحية المنهجية لم يسلم البحث الاجتماعي في مصر والمؤسسات البحثية من انتقادات رجال الاجتماع عامة والعاملين منهم في هذه المؤسسات خاصة.وقد وجه الأكاديميون والعاملون في مراكز البحوث من رجال الاجتماع انتقادات لا تقل حدة عن سابقتها إلى البحث الاجتماعي ومؤسساته في مصر يمكن إيجازها فيما يلي:
أولا: تأسست معظم مؤسسات البحث الاجتماعي في مصر بدون هدف واضح عام، ونظمت بطريقة بدائية قاصرة ولا تستقطب إلا القليل من العناصر القادرة على العطاء، كما يستغل جهد الباحثين فيها بطريقة عاجزة معيبة ولهذا نجدها لم تنجح في تناول القضايا الحيوية في المجتمع العربي بالتحليل، بل ولم توفق في دراسة ما عرضت له من موضوعات.
ثانيا: البحوث الاجتماعية ظلت أمدا بعيدا على تخلفها، معظمها مبعثر غير هادف، وغير متكامل مع قطاعات الإنتاج والخدمات والسياسة والثقافة والتعليم، فهي لا تستمد المشكلات البحثية من هذه القطاعات ولا تفيد في ترشيد أي قرارات ولا تلعب دورا في تكوين وعى اجتماعي على أساس علمي، وهى غير موجهة لمشكلات الجماهير ولا تهدف إلى مخاطبتها لأنها تكتب بلغة الخاصة، لغة المفهومات والمصطلحات الغامضة التي لا تمت بأي صلة إلى واقع هذه الجماهير وخصائصها، بالإضافة إلى أنها تتناول القضايا بعد حدوثها أو تتناول هذه القضايا ذات الطابع السلبي من وجهة نظر البنية الاجتماعية.ولهذا فقلما يكون لنتائج هذه البحوث هذا الدور الفعال في التخطيط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ثالثا: المشكلات الاجتماعية التي تتناولها هذه البحوث تتبنى مفاهيما تجمدت أصلا في المجتمعات الغربية حاول الباحثون أن يجدوا لها تطبيقات عربية، وتقوم أساسا على اختيار فكرة من هنا ومن هناك ثم اختيار عينة عشوائية عمدية في معظم الأحيان ثم تصميم استمارة بغض النظر عن ملاءمتها أو عدم ملاءمتها لموضوع البحث ثم استطراد في عرض جداول طولية وعرضية ونسب مئوية للبيانات، وتخرج ببيانات من صنع صاحبها يصيغها ليحاصر بها المبحوث فيجيب اجابات يريدها الباحث إما بنعم أو بلا.
رابعا: المداخل المنهجية المستخدمة في البحوث الاجتماعية قاصرة وتستخدم أساليب بحث وأدوات لجمع المعلومات معيبة وهى أصلا مستوردة من سياق حضاري مختلف، ولا يدرك الباحثون أن أساليـب وأدوات البحث الاجتماعي ذاتها ليست محايدة على الإطلاق وينطوي إعدادها واستعمالها على أبعاد إيديولوجية تقوم على أساس أن أطراف عملية جمع المعلومات أطراف مجردة بلا وعى ولا رغبات ولا احباطات ولا تحبزات وما إلى ذلك مما يؤثر على عائد البحث.
إذا كان هذا هو حال علم الاجتماع في مصر - بل وفى الوطن العربي- وحال المشتغلين به، وحال مؤسساته البحثية بعد مرور ما يقرب من مائة عام من دخوله إلى مصر والعالم العربى، فهل يلزمنا أن ننتظر مائة عام أخرى لمواجهة وعلاج كل هذه المثالب التي أشرنا إليها ثم نبدأ مرة أخرى من الصفر؟ أم أن نبحث عن الطريق الصحيح لمواجهة الواقع الاجتماعى المر الذى ينحدر بمجتمعاتنا كل يوم من سيئ إلى أسوأ؟
رابط الموضوع: [ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]