وذهب بعض العلماء إلى جواز القصر في قصير السفر وطويله
وممن قال بهذا داود الظاهري، قال عنه بعض أهل العلم: حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر، واحتجّ أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة، وبما رواه مسلم في "صحيحه" عن يحيىا بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، شعبة الشَّاك، صلّى ركعتين"، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضًا في " الصحيح " عن جبير بن نفير قال: " خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلّى ركعتين فقلت له. فقال: رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل "، وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين؛ لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرًا طويلاً فتباعد ثلاثة أميال قصر؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة، وكذلك حديث شرحبيل المذكور. فقوله إن عمر رضي اللَّه عنه صلّى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو أنه كان مسافرًا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلّى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره، قاله النووي وغيره، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم القصر صريحًا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي.
قال مقيده عفا اللَّه عنه قال ابن حجر في " تلخيص الحبير ": وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال: " كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة وسكت عليه "، فإن كان صحيحًا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورًا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر، والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولاً، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ياأهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد " ضعيف؛ لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك، وكذبه الثوري.
وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش، وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي، والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح، ورواه عنه مالك في " الموطأ " بلاغًا، وقد قدمناه.
والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، فكل ما كان يطلق عليه إسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه؛ لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرًا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أُحد ولم يقصر الصلاة، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا ؟ فإن كان صحيحًا كان نصًّا قويًّا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة، وقصر أهل مكّة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة، وبعضهم يقول: القصر في مزدلفة، ومنى، وعرفات، من مناسك الحجّ، واللَّه تعالى أعلم.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة، هو قول من قال: إن كل ما يسمى سفرًا ولو قصيرًا تقصر فيه الصلاة؛ لإطلاق السفر في النصوص، ولحديثي مسلم المتقدمين، وحديث سعيد بن منصور، وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن مسعر، عن محارب، سمعت ابن عمر يقول: " إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر ".
وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم، سمعت ابن عمر يقول: " لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة ".
قال ابن حجر في " الفتح ": إسناد كل منهما صحيح.اهـ والعلم عند اللَّه تعالى.
الفرع الثالث: يبتدئ المسافر القصر، إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر، ولا في وسط البلد، وهذا قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة، وأكثر فقهاء الأمصار، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الحليفة، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد، فلا يقصر حتى يجاوزها، واستدل الجمهور؛ على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد، بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله، وذكر ابن المنذر، عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلىّ بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال: وروينا معناه عن عطاء، وسليمان بن موسى قال: وقال مجاهد: لا يقصر المسافر نهارًا حتى يدخل الليل، وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار، وعن عطاء، أنه قال: إذا جاوز حيطان داره فله القصر.
قال النووي: فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، حين خرج من المدينة، ومذهب عطاء، وموافقيه منابذ للسفر.اهـ. منه، وهو ظاهر كما ترى.
الفرع الرابع: اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام، فذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد في إحدىا الروايتين إلى أنها أربعة أيام، والشافعية يقولون: لا يحسب فيها يوم الدخول، ولا يوم الخروج، ومالك يقول: إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم.
وقال ابن القاسم: في العتيبة يلغى يوم دخوله ولا يحسبه، والرواية المشهورة عن أحمد، أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة.
وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه: هي نصف شهر، واحتجّ من قال بأنها أربعة أيام، بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي رضي اللَّه عنه أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر"، هذا لفظ مسلم، وفي رواية له عنه: " للمهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة "، وفي رواية له عنه: " يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا "، وأخرجه البخاري في المناقب، عن العلاء بن الحضرمي أيضًا بلفظ: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " ثلاث للمهاجر بعد الصدر " اهـ. قالوا فإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم للمهاجرين في ثلاثة أيام يدلّ على أن من أقامها في حكم المسافر، وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام، وبما أخرجه مالك في " الموطأ " بسند صحيح، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرًا أن يقيم ثلاثًا "، وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما رخص لهم في الثلاث؛ لأنها مظنة قضاء حوائجهم، وتهيئة أحوالهم للسفر، وكذلك ترخيص عمر لليهود في إقامة ثلاثة أيام، والاستدلال المذكور له وجه من النظر؛ لأنه يعتضد بالقياس؛ لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر، ومن أقام أربعة أيام، فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه، واحتجّ الإمام أحمد، على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر، وابن عباس رضي اللَّه عنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم " قدم مكة في حجّة الوداع صبح رابعة، فأقام النبيّ صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلّى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصّر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، وهي إحدى وعشرون صلاة؛ لأنها أربعة أيام كاملة، وصلاة الصبح من الثامن "، قال: فإذا أجمع أن يقيم، كما أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم قصّر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتمّ.
وروى الأثرم، عن أحمد رحمه اللَّه أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس، وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجّة الوداع عشرًا يقصّر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه، وأن أنسًا أراد مدة إقامته بمكّة ومنى ومزدلفة.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه، ووضوح أنه الحق.
تنبيــه
حديث أنس هذا الثابت في الصحيح، لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضًا، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر"، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا؛ لأن حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما في غزوة الفتح، وحديث أنس، في حجة الوداع، وحديث ابن عباس، محمول على أنه صلى الله عليه وسلم، ما كان ناويًا الإقامة؛ والإقامة المجرّدة عن نيْة لا تقطع حكم السفر عند الجمهور، واللَّه تعالى أعلم.
وممن قال بهذا داود الظاهري، قال عنه بعض أهل العلم: حتى إنه لو خرج إلى بستان خارج البلد قصر، واحتجّ أهل هذا القول بإطلاق الكتاب والسنة جواز القصر بلا تقييد للمسافة، وبما رواه مسلم في "صحيحه" عن يحيىا بن يزيد الهنائي قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة فقال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ، شعبة الشَّاك، صلّى ركعتين"، هذا لفظ مسلم وبما رواه مسلم أيضًا في " الصحيح " عن جبير بن نفير قال: " خرجت مع شرحبيل بن السمط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلاً فصلّى ركعتين فقلت له. فقال: رأيت عمر صلّى بذي الحليفة ركعتين فقلت له، فقال: إنما أفعل كما رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يفعل "، وأجيب من جهة الجمهور بأنه لا دليل في حديثي مسلم المذكورين؛ لأنه ليس المراد بهما أن تلك المسافة المذكورة فيهما هي غاية السفر، بل معناه أنه كان إذا سافر سفرًا طويلاً فتباعد ثلاثة أميال قصر؛ لأن الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يسافر عند دخول وقت الصلاة إلا بعد أن يصليها فلا تدركه الصلاة الأخرى إلا وقد تباعد من المدينة، وكذلك حديث شرحبيل المذكور. فقوله إن عمر رضي اللَّه عنه صلّى بذي الحليفة ركعتين محمول على ما ذكرناه في حديث أنس وهو أنه كان مسافرًا إلى مكة أو غيرها فمر بذي الحليفة وأدركته الصلاة فصلّى ركعتين لا أن ذا الحليفة غاية سفره، قاله النووي وغيره، وله وجه من النظر ولم ينقل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم القصر صريحًا فيما دون مرحلتين كما جزم به النووي.
قال مقيده عفا اللَّه عنه قال ابن حجر في " تلخيص الحبير ": وروى سعيد بن منصور عن أبي سعيد قال: " كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر فرسخًا يقصر الصلاة وسكت عليه "، فإن كان صحيحًا فهو ظاهر في قصر الصلاة في المسافة القصيرة ظهورًا أقوى من دلالة حديثي مسلم المتقدمين.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: هذا الذي ذكرنا هو حاصل كلام العلماء في تحديد مسافة القصر، والظاهر أنه ليس في تحديدها نص صريح، وقد اختلف فيها على نحو من عشرين قولاً، وما رواه البيهقي والدارقطني والطبراني عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ياأهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد " ضعيف؛ لأن في إسناده عبد الوهاب بن مجاهد وهو متروك، وكذبه الثوري.
وقال الأزدي: لا تحل الرواية عنه وراويه عنه إسماعيل بن عياش، وروايته عن غير الشاميين ضعيفة وعبد الوهاب المذكور حجازي لا شامي، والصحيح في هذا الحديث أنه موقوف على ابن عباس رواه عنه الشافعي بإسناد صحيح، ورواه عنه مالك في " الموطأ " بلاغًا، وقد قدمناه.
والظاهر أن الاختلاف في تحديد المسافة من نوع الاختلاف في تحقيق المناط، فكل ما كان يطلق عليه إسم السفر في لغة العرب يجوز القصر فيه؛ لأنه ظاهر النصوص ولم يصرف عنه صارف من نقل صحيح ومطلق الخروج من البلد لا يسمى سفرًا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يذهب إلى قباء وإلى أُحد ولم يقصر الصلاة، والحديثان اللذان قدمنا عن مسلم محتملان وحديث سعيد بن منصور المتقدم لا نعلم أصحيح هو أم لا ؟ فإن كان صحيحًا كان نصًّا قويًّا في قصر الصلاة في المسافة القصيرة والطويلة، وقصر أهل مكّة مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع دليل عند بعض العلماء على القصر في المسافة غير الطويلة، وبعضهم يقول: القصر في مزدلفة، ومنى، وعرفات، من مناسك الحجّ، واللَّه تعالى أعلم.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: أقوى الأقوال فيما يظهر لي حجة، هو قول من قال: إن كل ما يسمى سفرًا ولو قصيرًا تقصر فيه الصلاة؛ لإطلاق السفر في النصوص، ولحديثي مسلم المتقدمين، وحديث سعيد بن منصور، وروى ابن أبي شيبة، عن وكيع، عن مسعر، عن محارب، سمعت ابن عمر يقول: " إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر ".
وقال الثوري: سمعت جبلة بن سحيم، سمعت ابن عمر يقول: " لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة ".
قال ابن حجر في " الفتح ": إسناد كل منهما صحيح.اهـ والعلم عند اللَّه تعالى.
الفرع الثالث: يبتدئ المسافر القصر، إذا جاوز بيوت بلده بأن خرج من البلد كله، ولا يقصر في بيته إذا نوى السفر، ولا في وسط البلد، وهذا قول جمهور العلماء منهم الأئمة الأربعة، وأكثر فقهاء الأمصار، وقد ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قصر بذي الحليفة، وعن مالك أنه إذا كان في البلد بساتين مسكونة أن حكمها حكم البلد، فلا يقصر حتى يجاوزها، واستدل الجمهور؛ على أنه لا يقصر إلا إذا خرج من البلد، بأن القصر مشروط بالضرب في الأرض، ومن لم يخرج من البلد لم يضرب في الأرض، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه إن أراد السفر قصر وهو في منزله، وذكر ابن المنذر، عن الحارث بن أبي ربيعة أنه أراد سفرًا فصلىّ بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد، وغير واحد من أصحاب ابن مسعود قال: وروينا معناه عن عطاء، وسليمان بن موسى قال: وقال مجاهد: لا يقصر المسافر نهارًا حتى يدخل الليل، وإن خرج بالليل لم يقصر حتى يدخل النهار، وعن عطاء، أنه قال: إذا جاوز حيطان داره فله القصر.
قال النووي: فهذان المذهبان فاسدان فمذهب مجاهد منابذ للأحاديث الصحيحة في قصر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة، حين خرج من المدينة، ومذهب عطاء، وموافقيه منابذ للسفر.اهـ. منه، وهو ظاهر كما ترى.
الفرع الرابع: اختلف العلماء في قدر المدة التي إذا نوى المسافر إقامتها لزمه الإتمام، فذهب مالك، والشافعي، وأبو ثور، وأحمد في إحدىا الروايتين إلى أنها أربعة أيام، والشافعية يقولون: لا يحسب فيها يوم الدخول، ولا يوم الخروج، ومالك يقول: إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح أتم.
وقال ابن القاسم: في العتيبة يلغى يوم دخوله ولا يحسبه، والرواية المشهورة عن أحمد، أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة.
وقال أبو حنيفة رحمه اللَّه: هي نصف شهر، واحتجّ من قال بأنها أربعة أيام، بما ثبت في الصحيح من حديث العلاء بن الحضرمي رضي اللَّه عنه أنه سمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: " ثلاث ليال يمكثهن المهاجر بمكة بعد الصدر"، هذا لفظ مسلم، وفي رواية له عنه: " للمهاجر إقامة ثلاث ليال بعد الصدر بمكة "، وفي رواية له عنه: " يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثًا "، وأخرجه البخاري في المناقب، عن العلاء بن الحضرمي أيضًا بلفظ: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: " ثلاث للمهاجر بعد الصدر " اهـ. قالوا فإذن النبيّ صلى الله عليه وسلم للمهاجرين في ثلاثة أيام يدلّ على أن من أقامها في حكم المسافر، وأن ما زاد عليها يكون إقامة والمقيم عليه الإتمام، وبما أخرجه مالك في " الموطأ " بسند صحيح، عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه أنه أجلى اليهود من الحجاز، ثم أذن لمن قدم منهم تاجرًا أن يقيم ثلاثًا "، وأجيب عن هذا الدليل من جهة المخالف، بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما رخص لهم في الثلاث؛ لأنها مظنة قضاء حوائجهم، وتهيئة أحوالهم للسفر، وكذلك ترخيص عمر لليهود في إقامة ثلاثة أيام، والاستدلال المذكور له وجه من النظر؛ لأنه يعتضد بالقياس؛ لأن القصر شرع لأجل تخفيف مشقة السفر، ومن أقام أربعة أيام، فإنها مظنة لإذهاب مشقة السفر عنه، واحتجّ الإمام أحمد، على أنها ما زاد على إحدى وعشرين صلاة بما ثبت في الصحيح من حديث جابر، وابن عباس رضي اللَّه عنهم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم " قدم مكة في حجّة الوداع صبح رابعة، فأقام النبيّ صلى الله عليه وسلم اليوم الرابع، والخامس، والسادس، والسابع، وصلّى الفجر بالأبطح يوم الثامن، فكان يقصّر الصلاة في هذه الأيام، وقد أجمع على إقامتها، وهي إحدى وعشرون صلاة؛ لأنها أربعة أيام كاملة، وصلاة الصبح من الثامن "، قال: فإذا أجمع أن يقيم، كما أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم قصّر، وإذا أجمع على أكثر من ذلك أتمّ.
وروى الأثرم، عن أحمد رحمه اللَّه أن هذا الاحتجاج كلام ليس يفقهه كل الناس، وحمل الإمام أحمد حديث أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقام بمكة في حجّة الوداع عشرًا يقصّر الصلاة على هذا المعنى الذي ذكرنا عنه، وأن أنسًا أراد مدة إقامته بمكّة ومنى ومزدلفة.
قال مقيده عفا اللَّه عنه: وهذا لا ينبغي العدول عنه لظهور وجهه، ووضوح أنه الحق.
تنبيــه
حديث أنس هذا الثابت في الصحيح، لا يعارضه ما ثبت في الصحيح أيضًا، عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما قال: "أقام النبيّ صلى الله عليه وسلم بمكة تسعة عشر يقصر"، فنحن إذا سافرنا تسعة عشر قصرنا، وإن زدنا أتممنا؛ لأن حديث ابن عباس رضي اللَّه عنهما في غزوة الفتح، وحديث أنس، في حجة الوداع، وحديث ابن عباس، محمول على أنه صلى الله عليه وسلم، ما كان ناويًا الإقامة؛ والإقامة المجرّدة عن نيْة لا تقطع حكم السفر عند الجمهور، واللَّه تعالى أعلم.