وأخيرا شاهدتُ فرعون
قبل أيام معدودات زرت المتحف الوطني بالقاهرة وشاهدت المدعو فرعون الذي تجبّر وتكبّر وعصى وعتا، وتمرد وطغى، وصاح في شعبه: «فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى»، ونادى في الجمهور «مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي»، ورأيت جثته الهامدة وجثمانه البالي، وتذكرت قول الواحد القهار فيه: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً».
ودارت في ذهني مأساة الإنسان يوم ينسى ربه ويظلم نفسه ويتجاوز حدوده ويتعدى طوره كيف يكون مصرعه وكيف تتم نهايته.
رأيت فرعون بهيكله العظمي، ووجهه الكالح، وأسنانه الظاهرة، وجمجمته المهشمة وحيدا منفردا صفرا من كل شيء، مجردا من كل قوة، مسلوبا من كل نعمة، معروضا لعيون الناس بتاريخه وسيرته وجثمانه، رأيته في صندوق زجاجي بلا دولة ولا سلطان، ولا قوة ولا هيلمان، ولا سلطة ولا صولجان، ولا جنود ولا أعوان.
كان يقول له موسى: قل لا إله إلا الله، فيقول الخسيس الحقير: أنا الله. كان يقول له موسى: ربي وربك الواحد الأحد جل في علاه، فيقول: «مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي».
ملك الغبي الأحمق قطعة من الأرض فاستبد وقال: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي»، فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه.
تذكرت فرعون وهو يغرق في الماء ثم يُرمى في البيداء كما تُرمى الضفدع الميتة،
أما فكر المعتوه في الكون؟
أما نظر في السموات والأرض؟
أما شاهد الأفلاك والكواكب؟
أما نظر إلى الشمس والقمر؟
أما قرأ القدرة في النجوم اللامعة، والجبال الشاهقة، والبحار الهاجرة، والريح الهائجة، والأنهار المتدفقة، والثمار اليانعة؟
ما له - قاتله الله - ألغى عقله وشطّب على ضميره وداس بقدمه تفكيره؟
لماذا لم يقف وقفة تأمل مع نفسه ليعلم أنه لا يصلح ربا ولا يكون إلها أبدا؛ لأن الرب سبحانه حي لا يموت، دائم لا يفنى، غني لا يفتقر، قوي لا يضعف، لا ينام، ولا يأكل الطعام، ولا يحتاج إلى الأنام، ولا تغيره الأيام؟
أما فرعون فمخلوق ضعيف يموت كما يموت الناس ويجوع كما تجوع البهائم وينعس كما ينعس القط وينام كما ينام الفأر، ويأكل الطعام ويذهب إلى الخلاء، فإن كان فرعون خلق الكون فكيف يخلقه والكون مخلوق قبله بملايين السنين؟ وإن كان هو رفع السماء فأين قوته لتحميه من هيجان الماء؟
تبت يد الطاغية، كيف ارتكب كذبته الكبرى وصدقها وهو أنه صنع الكون وهندسه وأنه خلق الكائنات، وملك الأرض والسموات؟
سحقا له، كيف أخرج للعالم مسرحية عابثة هزيلة سخيفة خلاصتها أنه يجب أن يُعبد من دون الله؟
أيعبد إنسان إنما هو قطعة لحم وهيكل عظم يغص باللقمة، ويشرق بالشربة، ويضيق بالزكام، ويحتاج إلى الطعام، ويغيبه المنام، ويقلقه الحر ويؤذيه البرد وينهشه الجوع ويزعجه الظمأ ويوهنه المرض؟
كيف يكون إلها مَن أوله نطفة مذرة، وهو يحمل في بطنه العذرة، وينتهي إلى جيفة قذرة؟
كيف يكون ربا من يبكي ويحزن ويهتم ويتثاءب ويعطس ويغفل وينسى ويغضب ويحقد ويحسد ويتمخط ويبول ويتغوّط ويجامع؟
إن هذا إنسان مخلوق ضعيف هزيل هش بائس فقير، وليس بإله قوي غني قاهر حي قيوم فعال لما يريد، أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
شاهدت فرعون فصاح قلبي: لا إله إلا الله، البقاء لله، العظمة لله، الكبرياء لله، الملكوت والجبروت لله. ونظرت في وجه فرعون الكالح وقال قلبي: تبا لك يا مريد، وسحقا لك يا عنيد، ولعنة عليك يا بليد، ذق نهايتك المرة، وتجرع غصص الحسرة، وكن عبرة وأي عبرة، لقد جئنا بعدك يا فرعون بآلاف السنين، وعرفنا أن الله هو رب العالمين، وإله الأولين والآخرين، أما أنت فصفر في هذا الكون ومخلوق غير سوي في هذا الوجود،
نقرأ سيرتك فنزداد غيظا عليك، ونبرأ إلى الله منك ومن منهجك، ونعوذ بالله من مصير كمصيرك، ونستجير بالله من نهاية كنهايتك، والويل كل الويل لمن قلّد فرعون أو نهج نهجه أو رضي أفعاله.
د. عائض القرني
قبل أيام معدودات زرت المتحف الوطني بالقاهرة وشاهدت المدعو فرعون الذي تجبّر وتكبّر وعصى وعتا، وتمرد وطغى، وصاح في شعبه: «فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى»، ونادى في الجمهور «مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي»، ورأيت جثته الهامدة وجثمانه البالي، وتذكرت قول الواحد القهار فيه: «فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً».
ودارت في ذهني مأساة الإنسان يوم ينسى ربه ويظلم نفسه ويتجاوز حدوده ويتعدى طوره كيف يكون مصرعه وكيف تتم نهايته.
رأيت فرعون بهيكله العظمي، ووجهه الكالح، وأسنانه الظاهرة، وجمجمته المهشمة وحيدا منفردا صفرا من كل شيء، مجردا من كل قوة، مسلوبا من كل نعمة، معروضا لعيون الناس بتاريخه وسيرته وجثمانه، رأيته في صندوق زجاجي بلا دولة ولا سلطان، ولا قوة ولا هيلمان، ولا سلطة ولا صولجان، ولا جنود ولا أعوان.
كان يقول له موسى: قل لا إله إلا الله، فيقول الخسيس الحقير: أنا الله. كان يقول له موسى: ربي وربك الواحد الأحد جل في علاه، فيقول: «مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي».
ملك الغبي الأحمق قطعة من الأرض فاستبد وقال: «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي»، فأجرى الله الأنهار من فوق رأسه.
تذكرت فرعون وهو يغرق في الماء ثم يُرمى في البيداء كما تُرمى الضفدع الميتة،
أما فكر المعتوه في الكون؟
أما نظر في السموات والأرض؟
أما شاهد الأفلاك والكواكب؟
أما نظر إلى الشمس والقمر؟
أما قرأ القدرة في النجوم اللامعة، والجبال الشاهقة، والبحار الهاجرة، والريح الهائجة، والأنهار المتدفقة، والثمار اليانعة؟
ما له - قاتله الله - ألغى عقله وشطّب على ضميره وداس بقدمه تفكيره؟
لماذا لم يقف وقفة تأمل مع نفسه ليعلم أنه لا يصلح ربا ولا يكون إلها أبدا؛ لأن الرب سبحانه حي لا يموت، دائم لا يفنى، غني لا يفتقر، قوي لا يضعف، لا ينام، ولا يأكل الطعام، ولا يحتاج إلى الأنام، ولا تغيره الأيام؟
أما فرعون فمخلوق ضعيف يموت كما يموت الناس ويجوع كما تجوع البهائم وينعس كما ينعس القط وينام كما ينام الفأر، ويأكل الطعام ويذهب إلى الخلاء، فإن كان فرعون خلق الكون فكيف يخلقه والكون مخلوق قبله بملايين السنين؟ وإن كان هو رفع السماء فأين قوته لتحميه من هيجان الماء؟
تبت يد الطاغية، كيف ارتكب كذبته الكبرى وصدقها وهو أنه صنع الكون وهندسه وأنه خلق الكائنات، وملك الأرض والسموات؟
سحقا له، كيف أخرج للعالم مسرحية عابثة هزيلة سخيفة خلاصتها أنه يجب أن يُعبد من دون الله؟
أيعبد إنسان إنما هو قطعة لحم وهيكل عظم يغص باللقمة، ويشرق بالشربة، ويضيق بالزكام، ويحتاج إلى الطعام، ويغيبه المنام، ويقلقه الحر ويؤذيه البرد وينهشه الجوع ويزعجه الظمأ ويوهنه المرض؟
كيف يكون إلها مَن أوله نطفة مذرة، وهو يحمل في بطنه العذرة، وينتهي إلى جيفة قذرة؟
كيف يكون ربا من يبكي ويحزن ويهتم ويتثاءب ويعطس ويغفل وينسى ويغضب ويحقد ويحسد ويتمخط ويبول ويتغوّط ويجامع؟
إن هذا إنسان مخلوق ضعيف هزيل هش بائس فقير، وليس بإله قوي غني قاهر حي قيوم فعال لما يريد، أحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد.
شاهدت فرعون فصاح قلبي: لا إله إلا الله، البقاء لله، العظمة لله، الكبرياء لله، الملكوت والجبروت لله. ونظرت في وجه فرعون الكالح وقال قلبي: تبا لك يا مريد، وسحقا لك يا عنيد، ولعنة عليك يا بليد، ذق نهايتك المرة، وتجرع غصص الحسرة، وكن عبرة وأي عبرة، لقد جئنا بعدك يا فرعون بآلاف السنين، وعرفنا أن الله هو رب العالمين، وإله الأولين والآخرين، أما أنت فصفر في هذا الكون ومخلوق غير سوي في هذا الوجود،
نقرأ سيرتك فنزداد غيظا عليك، ونبرأ إلى الله منك ومن منهجك، ونعوذ بالله من مصير كمصيرك، ونستجير بالله من نهاية كنهايتك، والويل كل الويل لمن قلّد فرعون أو نهج نهجه أو رضي أفعاله.
د. عائض القرني