"هل وُلِدَت قلوبنا؟":--
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
أيها المستقبلون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:--
أما بعد:--
فإني قد عزمت على أن أرسل إليكم -بدءاً من هذه الرسالة- رسائل تدخل تحت موضوع غاية في الأهمية، ألا وهو: معرفة الله ومحبته وابتغاء مرضاته وثوابه الذي من أعظمه: النظر إلى وجه الله تعالى وسماع كلامه سبحانه في الجنة، فمن حصل له ذلك فقد حصل له الفلاح والنجاة والعافية والسعادة، وهذا هو الخير كله.
تعالوا الآن إلى الدرس الأول: "هل وُلِدَت قلوبنا؟":--
إذا لم يولد القلب فمعنى ذلك أنه ما زال جنيناً في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال، ويترتب على ذلك أن يضعف إيمانه إلى الحد الذي لا يقوى نوره على مقاومة الظلمات الثلاث، ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى.
ظلمات ثلاث ليست كالظلمات التي قال الله تعالى عنها في الآية السادسة من سورة الزمر: "يخلقكم في بطون أمهاتكم خَلْقاً من بعد خَلْقٍ في ظُلُماتٍ ثَلاث".
فالظلامات التي يخلقنا الله فيها في بطون أمهاتنا يتبين بالتدبر فيها عظيم قدرة الله في رعاية الجنين في تلك الظلمات -ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة- تخليقاً وحفظاً وتغذيةً ونمواً ثم إذا تم أمره سهل الله العليم القدير الرحيم الكريم اللطيف الخبير خروجه، فليس في ذِكْر تلك الظلمات ذَّمٌ لمن خُلِقَ فيها.
أما الظلمات التي غفل القلب وفَّرَطَ حتى اجتمعت عليه وأحاطت به فسُجِنَ وحُبِسَ فيها: فإنه يُلامُ على غفلته ويُذَّمُ على تفريطه.
أما من تعاهد إيمانه فكان له نور يقاوم تلك الظلمات، فقد وُلِدَ قلبه فنهنئه بمعرفته لربه ومحبته له سبحانه وإيثاره لرضاه على ما يُرْضي نفسه الظالمة الجاهلة: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً" الأحزاب 72، وعلى موافقة طبعه الداعي إلى الكسل والفتور والركون إلى الدِعة والراحة: "وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى" النساء 142، وعلى الاستجابة لهواه الداعي إلى إيثار الدنيا على الآخرة: "ولكنه أَخْلَدَ إلى الأرض واتبع هواه" الأعراف 176، هنيئاً له إذ آثر رضا مولاه على إرضاء نفسه وطبعه وهواه.
وأما القلب المتطلع إلى أن يولد لكن يؤخر ولادته تردده بين الخير الذي فيه والشر الذي ينازع ذلك الخير ويحول دون نضج ثماره وتحقق آثاره، فنقول له أعاذك الله من شر نفسك وسيئات عملك وفك أسرك ومَّنَ عليك بالعافية.
وأما القلب المستسلم للظلمات فنقول له: لو عرفت الله بأسمائه وصفاته وأفعاله لأحببته لا محالة، ولو أحببته لأطعته، ولو أطعته لزاد إيمانك، ولو زاد إيمانك لوجدت له حلاوةً وطعماً تكره معه العودة إلى ظلمات النفس والطبع والهوى ولو قُذِفْتَ في النار.
قال ابن القيم -رحمه الله- في ولادة القلوب في كتابه "طريق الهجرتين":--
والمقصود أن القلوب في هذه الولادة ثلاثة:
1- قلب لم يولد ولم يأن له بل هو جنين في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال.
2- وقلب قد ولد وخرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب، وأنست بقربه الأرواح، وذَّكَرَتْ رؤيته بالله، فاطمأن بالله وسكن إليه، وعكف بهمته عليه، وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى، لا يقر بشيء غير الله، ولا يسكن إلى شيء سواه، ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عوضا، ولا يجد من الله عوضا أبدا، فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قُوْته، ومعرفته أنيسه، عدوه من جذب قلبه عن الله وإن كان القريب المصافي، ووليه من رده إلى الله وجمع قلبه عليه وإن كان البعيد المناوي. فهذان قلبان متباينان غاية التباين.
3- وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحا ومساء، وقد أصبح على فضاء التجريد، وآنس من خلال الديار أشعة التوحيد، تأبى غلبات الحب والشوق إلا تقربا إلى من السعادة كلها بقربه، والحظ كل الحظ في طاعته وحبه، وتأبى غلبات الطباع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه، فهو بين الداعيين تارة وتارة، قد قطع عقبات وآفات، وبقي عليه مفاوز وفلوات.
والآن تعالوا إلى غَيْضٍ من فَيْضِ القرآن والسنة في بيان أهمية النور وفضله والدلالة على أن من جعل الله له نورا فقد حصل له كمال حياة قلبه وقُّوَتِهِ الطاردة لجميع أنواع الظلمات، وحصلت له العصمة في سيره إلى الله من الضلال والنجاة من الهلاك.
لقد ذكر الله تعالى في سبعة مواضع من القرآن فضله على عباده في إخراجهم من الظلمات إلى النور برسله الذين أرسلهم -صلوات الله وسلامه عليهم- وكتبه التي أنزلها.
وسأذكر هذه المواضع مع شيء من البيان لها بالإضافة إلى الاستشهاد بآيات أخرى، وبالله التوفيق.
قال الله تعالى: "الله وَلِّيُ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" البقرة 257.
وقال تعالى: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يُبَّيِنُ لكم كثيراً مما كنتم تُخْفُوْنَ من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ. يهدي به اللهُ من اتبع رضوانه سُبُلَ السلامِ ويُخْرِجُهُمْ من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم" المائدة 15-16.
وقال تعالى: "الر كتابٌ أنزلناه إليكَ لِتُخْرِجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النور بإذنِ رَّبِهِمْ إلى صراطِ العزيز الحميد. الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويلٌ للكافرين من عذاب شديد. الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عِوَجاً أولئك في ضلال بعيد" إبراهيم 1-3.
وقال تعالى: "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أَخْرِجْ قَوْمَكَ من الظلمات إلى النور وذَّكِرهم بأيام الله إّن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" إبراهيم 5.
وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذِكْراً كثيراً. وسبحوه بُكْرَةً وأصيلاً. هو الذي يُصَّلِيْ عليكم وملائكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً. تحيتهم يوم يلقونه سلامٌ وأعد لهم أَجْراً كريماً" الأحزاب 41-44.
وقال تعالى: "هو الذي يُنَّزِلُ على عَبْدِهِ آياتٍ بَّيِناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ من الظلمات إلى النور وإّن اللهَ بكم لرؤوفٌ رحيمٌ" الحديد 9.
وقال تعالى: "رسولاً يَتْلُوْ عليكم آياتِ اللهِ مُبَّيِناتٍ لِيُخْرِجَ الذين آمنوا وعَمِلُوا الصالحات من الظلمات إلى النور" الطلاق 11.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي في تفسير الموضع الأول من هذه المواضع السبعة وهو الآية 257 من سورة البقرة:--
وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومَّنَ عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفُسْحة والسرور.
"والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حُرِموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى: "أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
وأما الموضع الثاني وهو الآيتان 15-16 من سورة المائدة، فقبل أن أذكر تفسيره للشيخ ابن سعدي: أذكر شيئاً من كلامه -رحمه الله- عن فضل القرآن في مقدمة تفسيره:--
الحمد لله الذي أنزل على عبده الفرقان الفارق بين الحلال والحرام، والسعداء والأشقياء، والحق والباطل.
وجعله برحمته هدى للناس عموما، وللمتقين خصوصا، من ضلال الكفر والمعاصي والجهل، إلى نور الإيمان والتقوى والعلم، وأنزله شفاء للصدور من أمراض الشبهات والشهوات، ويحصل به اليقين والعلم في المطالب العاليات، وشفاء للأبدان من أمراضها وعللها وآلامها وسقمها.
وأخبر أنه لا ريب فيه ولا شك بوجه من الوجوه، وذلك لاشتماله على الحق العظيم في أخباره، وأوامره، ونواهيه، وأنزله مباركا، فيه الخير الكثير، والعلم الغزير، والأسرار البديعة، والمطالب الرفيعة، فكل بركة وسعادة تنال في الدنيا والآخرة، فسببها الاهتداء به واتباعه، وأخبر أنه مصدق ومهيمن على الكتب السابقة، فما يشهد له فهو الحق، وما رده فهو المردود، لأنه تضمنها وزاد عليها. وقال تعالى فيه: "يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام"، فهو هاد لدار السلام، مبين لطريق الوصول إليها، وحاث عليها، كاشف عن الطريق الموصلة إلى دار الآلام ومحذر منها.
وقال تعالى مخبرا عنه: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"، فبين آياته أكمل تبيين، وأتقنها أي إتقان، وفصلها بتبيين الحق من الباطل والرشد من الضلال، تفصيلا كاشفا للبس، لكونه صادرا من حكيم خبير، فلا يخبر إلا بالصدق والحق واليقين، ولا يأمر إلا بالعدل والإحسان والبر، ولا ينهى إلا عن المضار الدينية والدنيوية.
والآن إلى تفسير آيتي المائدة 15-16 من كلام الشيخ ابن سعدي:--
لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأنهم نقضوا ذلك إلا قليلا منهم، أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته، وهي: أنه بين لهم كثيرا مما يخفون عن الناس، حتى عن العوام من أهل ملتهم، فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا علم عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم، فالحريص على العلم لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم، فإتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم الذي بين به ما كانوا يتكاتمونه بينهم، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب: من أدل الدلائل على القطع برسالته، وذلك مثل صفة محمد في كتبهم، ووجود البشائر به في كتبهم، وبيان آية الرجم ونحو ذلك.
"ويعفو عن كثير" أي: يترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة.
"قد جاءكم من الله نور" وهو القرآن، يستضاء به في ظلمات الجهالة وعماية الضلالة.
"وكتاب مبين" لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم، من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.
ثم ذكر من الذي يهتدي بهذا القرآن، وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك، فقال: "يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام" أي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله، وصار قصده حسنا: سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالا وتفصيلا.
"ويخرجهم من الظلمات إلى النور" ظلمات الكفر والبدعة والمعصية والجهل والغفلة، إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم والذكر. وكل هذه الهداية بإذن الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. "ويهديهم إلى صراط مستقيم".
لم يفسر الشيخ هذه الجملة الأخيرة، وقد دل على معناها ما سبق من كلامه رحمه الله.
والمراد بهذه الجملة أن هذا الكتاب المبين يهدي متبعيه إلى طريق يسلمون فيه من الضلال والهلاك، ويصلون في نهايته إلى رضا ربهم وثوابه، لأنه مستقيم لا اعوجاج فيه.
وقال الشيخ ابن سعدي في تفسير الموضع الثالث الذي هو في مطلع سورة إبراهيم:--
يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة.
وقوله: "بإذن ربهم" أي: لا يحصل منهم المراد المحبوب لله، إلا بإرادة من الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم.
ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب فقال: "إلى صراط العزيز الحميد" أي: الموصل إليه وإلى دار كرامته، المشتمل على العلم بالحق والعمل به.
وفي ذكر "العزيز الحميد" بعد ذكر الصراط الموصل إليه: إشارة إلى أن من سلكه فهو عزيز بعز الله قوي ولو لم يكن له أنصار إلا الله، محمود في أموره، حسن العاقبة.
وليدل ذلك على أن صراط الله من أكبر الأدلة على ما لله من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وأن الذي نصبه لعباده، عزيز السلطان، حميد في أقواله وأفعاله وأحكامه، وأنه مألوه معبود بالعبادات التي هي منازل الصراط المستقيم، وأنه كما أن له ملك السماوات والأرض خلقا ورزقا وتدبيرا، فله الحكم على عباده بأحكامه الدينية، لأنهم مُلْكُه، ولا يليق به أن يتركهم سدى، فلما بين الدليل والبرهان توعد من لم ينقد لذلك، فقال: "وويل للكافرين من عذاب شديد" لا يُقْدَرُ قدره، ولا يوصف أمره.
ثم وصفهم بأنهم "الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة" فرضوا بها واطمأنوا، وغفلوا عن الدار الآخرة.
"ويصدون" الناس "عن سبيل الله" التي نصبها لعباده وبينها في كتبه وعلى ألسنة رسله، فهؤلاء قد نابذوا مولاهم بالمعاداة والمحاربة، "ويبغونها" أي: سبيل الله "عوجا" أي: يحرصون على تهجينها وتقبيحها، للتنفير عنها، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
"أولئك" الذين ذكر وصفهم "في ضلال بعيد" لأنهم ضلوا وأضلوا، وشاقوا الله ورسوله وحاربوهما، فأي ضلال أبعد من هذا؟!!
وأما أهل الإيمان فبعكس هؤلاء يؤمنون بالله وآياته، ويستحبون الآخرة على الدنيا، ويدعون إلى سبيل الله ويحسنونها مهما أمكنهم، ويبينون استقامتها.
وأختم الكلام على هذه الآية بأن أقول: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أمره الله به، فأخرجنا من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات الجَوْر والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومن ظلمات الفوضى الفكرية والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدف والسلوك، ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر.
وأما الموضع الرابع فقد قال الشيخ ابن سعدي في تفسير الآية 5 من سورة إبراهيم:--
يخبر تعالى: أنه أرسل موسى بآياته العظيمة الدالة على صدق ما جاء به وصحته، وأمره بما أمر به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بل وبما أمر به جميع الرسل قومهم "أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور" أي: ظلمات الجهل والكفر وفروعه، إلى نور العلم والإيمان وتوابعه.
"وذكرهم بأيام الله" أي: بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، وبأيامه في الأمم المكذبين، ووقائعه بالكافرين، ليشكروا نعمه وليحذروا عقابه، "إن في ذلك" أي: في أيام الله على العباد "لآيات لكل صبار شكور" أي: صبار في الضراء والعسر والضيق، شكور على السراء والنعمة.
وأما تفسير الموضع الخامس فقد قال الشيخ ابن سعدي في الكلام على الآيات من 41-44 من سورة الأحزاب:--
يأمر تعالى المؤمنين، بذكره ذكرا كثيرا، من تهليل وتحميد وتسبيح وتكبير وغير ذلك، من كل قول فيه قربة إلى الله، وأقل ذلك أن يلازم الإنسان أوراد الصباح والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب.
وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح، وداع إلى محبة الله ومعرفته، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح.
"وسبحوه بكرة وأصيلا" أي: أول النهار وآخره، لفضلها، وشرفها، وسهولة العمل فيها.
"هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما" أي: من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم أن جعل من صلاته عليهم وثنائه وصلاة ملائكته ودعائهم ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذه أعظم نعمة أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها والإكثار من ذكر الله الذي لطف بهم ورحمهم، وجعل حملة عرشه أفضل الملائكة، ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات ومن تَقِ السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم".
فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا.
"تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما"، وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة وأفضل ثواب، وهو الفوز برضا ربهم وتحيته واستماع كلامه الجليل ورؤية وجهه الجميل وحصول الأجر الكبير الذي لا يدري ولا يعرف كنهه إلا من أعطاهم إياه، ولهذا قال: "تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما".
وأما الموضع السادس وهو الآية 9 من سورة الحديد فقد قال الشيخ ابن سعدي في تفسيرها:--
من لطفه وعنايته بكم أنه لم يكتف بمجرد دعوة الرسول الذي هو أشرف العالم، بل أيده بالمعجزات، ودلكم على صدق ما جاء به بالآيات البينات، فلهذا قال: "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات" أي: ظاهرات تدل أهل العقول على صدق كل ما جاء به وأنه حق اليقين. "ليخرجكم" بإرسال الرسول إليكم، وما أنزله على يده من الكتاب والحكمة.
"من الظلمات إلى النور" أي: من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان، وهذا من رحمته بكم ورأفته حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
"وإن الله بكم لرؤوف رحيم".
وأما الموضع السابع والأخير وهو في الآية 10 من سورة الطلاق فقد قال الشيخ ابن سعدي في تفسيرها:--
ثم ذَّكَرَ عباده المؤمنين بما أنزل عليهم من كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الخلق من ظلمات الكفر والجهل والمعصية إلى نور العلم والإيمان والطاعة.
وبعد هذه المواضع السبعة أذكر أيضاً كلام الشيخ ابن سعدي على الآية 122 من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: "أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زُّيِنَ للكافرين ما كانوا يعملون":--
يقول تعالى: "أومن كان" من قبل هداية الله له "ميتا" في ظلمات الكفر والجهل والمعاصي "فأحييناه" بنور العلم والإيمان والطاعة، فصار يمشي بين الناس في النور، متبصرا في أموره مهتديا لسبيله عارفا للخير مؤثرا له مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره، عارفا بالشر مبغضا له مجتهدا في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره. أفيستوي هذا بمن هو في الظلمات -ظلمات الجهل والغي والكفر والمعاصي- "ليس بخارج منها" قد التبست عليه الطرق وأظلمت عليه المسالك فحضره الهم والغم والحزن والشقاء.
فنبه تعالى العقول بما تدركه وتعرفه أنه لا يستوي هذا ولا هذا كما لا يستوي الليل والنهار والضياء والظلمة والأحياء والأموات.
فكأنه قيل: فكيف يؤثر من له أدنى مُسْكةٍ من عقل أن يكون بهذه الحالة وأن يبقى في الظلمات متحيرا؟ فأجاب بأنه "زين للكافرين ما كانوا يعملون" فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم ويزينها في قلوبهم حتى استحسنوها ورأوها حقا. وصار ذلك عقيدة في قلوبهم وصفة راسخة ملازمة لهم، فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح.
وقال الشيخ ابن سعدي -أخيراً- في تفسير قوله تعالى: "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذِكْرِ الله أولئك في ضلال مبين" الزمر 23:--
أي: أفيستوي من شرح الله صدره للإسلام فاتسع لتلقي أحكام الله والعمل بها منشرحا قرير العين على بصيرة من أمره، وهو المراد بقوله: "فهو على نور من ربه" كمن ليس كذلك، بدليل قوله: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" أي: لا تلين لكتابه ولا تتذكر آياته ولا تطمئن بذكره، بل هي معرضة عن ربها ملتفتة إلى غيره، فهؤلاء لهم الويل الشديد، والشر الكبير.
"أولئك في ضلال مبين" وأي ضلال أعظم من ضلال من أعرض عن وليه؟ ومَن كُّلُ السعادة في الإقبال عليه، وقسا قلبه عن ذكره، وأقبل على كل ما يضره؟"
وآخر ما أقوله قبل الانتقال إلى النظر في بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قال الله تعالى في الآية 40 من سورة النور: "ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور" أي: من لم يعطه الله من الخير والنور إيماناً خالصاً صادقاً وعلماً نافعاً وتوفيقاً للعمل الصالح: فإنه مخذولٌ محرومٌ لا يُرْجى له فلاحٌ والعياذ بالله.
وأما السنة فيمكن إجمال الكلام على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهمية النور وفضله وأثره في كمال حياة القلب وقوته في مقاومة الظلمات وكشفها وتبديدها، وذلك من خلال نقاط:--
1-- الدعاء:--
حفظ ابن عباس -رضي الله عنهما- من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليلة التي بات فيها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت خالته ميمونة -رضي الله عنها- وهي إحدى أمهات المؤمنين:
"اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي نورا.
قال كريب: وسبع في التابوت فلقيت رجلا من ولد العباس فحدثني بهن فذكر: عصبي ولحمي ودمي وشعري
وبشري وذكر خصلتين.
رواه البخاري برقم: "6316".
ومعنى كلام كُرَيْب راوي الحديث عن ابن عباس: "وسبع في التابوت" أي ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنور في سبعة أشياء أخرى من الجسد الذي هو التابوت في كلام كُرَيْب، فذكر منها خمسة، وقيل إن السادسة والسابعة هي المخ والعظام.
وقد جاء عن ابن عباس في نفس الحديث أن هذا الدعاء كان في صلاة الليل التي صلاها مع رسول الله في تلك الليلة، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم دعى بذلك عند الخروج إلى صلاة الصبح.
وقد رواه مسلم برقم: "763" ونصه:
"اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي لساني نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا ومن فوقي نورا ومن تحتي نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا ومن بين يدي نورا ومن خلفي نورا واجعل في نفسي نورا وأعظم لي نورا".
وفي نفس الحديث عنده: واجعل لي نورا. واجعلني نورا. وأعطني نورا.
وروى أحمد برقم: "3712" بتحقيق الأرنؤوط "عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحدا قط هم ولا حَزَنٌ فقال اللهم إني عبدك بن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماض فِّيَ حكمك عدل فِّيَ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا" قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها فقال: "بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها".
صححه الألباني.
2-- وصف بعض الأعمال بأنها نور:--
من ذلك ما جاء في صحيح مسلم برقم: "223" عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلاة نور".
ومن ذلك ما رواه ابن حبان وصححه الحاكم والألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم: "2233" في فضل تلاوة القرآن وذكر الله عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال:
قلت يا رسول الله أوصني قال "أوصيك بتقوى الله فإنها رأس الأمر كله" قلت يا رسول الله زدني
قال "عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء" قلت يا رسول الله زدني قال "إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه" قلت يا رسول الله زدني قال "عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي" قلت يا رسول الله زدني قال "أَحِّبَ المساكين وجالسهم" قلت يا رسول الله زدني قال "انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك"
قلت يا رسول الله زدني قال "قل الحق وإن كان مرا" قلت يا رسول الله زدني قال "لِيَرُّدَكَ عن الناس ما تعلمه من نفسك، ولا تَجِد عليهم فيما تأتي، وكفى بك عيبا أن تعرف من الناس ما تجهله من نفسك وتجد عليهم فيما تأتي" ثم ضرب بيده على صدري فقال "يا أبا ذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق".
ومن ذلك ما رواه أحمد بتحقيق الأرنؤوط برقم: "1384" عن طلحة بن عبيد الله، وابن ماجة برقم: "3795" عن يحيى بن طلحة عن أمه سُعْدى المُّرِّية، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فضل كلمة التوحيد:--
"مر عمر بطلحة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك مكتئبا؟ أساءتك إمرة ابن عمك؟ -يعني خلافة أبي بكر رضي الله عنه- قال: لا، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني لأعلم كلمة لا يقولها أحد عند موته، إلا كانت نورا لصحيفته، وإن جسده وروحه ليجدان لها رَوْحاً عند الموت، فلم أسأله حتى توفي، قال: أنا أعلمها، هي التي أراد عمه عليها، ولو علم أن شيئا أنجى له منها، لأمره".
صححه الألباني والأرنؤوط.
والكلمة التي أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عمه أن يقولها عند موته هي كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله".
3-- البشارة على بعض الأعمال الصالحة بالنور:--
ومن ذلك ما رواه أبو داوود برقم: "561" والترمذي برقم: "223" وهو حديث صحيح، عن بُرَيْدة بن الحُصَيْب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَّشِرْ المَّشائين في الظُلَمِ إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة".
وإنما قال رسول الله: "بالنور التام" لأن المنافقين يبدأ عقابهم قبل السقوط في نار جهنم -والعياذ بالله- بإطفاء النور الذي معهم عند المرور على الصراط، فيقول المؤمنون عند ذلك كما في الآية 8 من سورة التحريم: "رَّبَنا أَتْمِمْ لنا نورَنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير".
ومن الدلائل على أن النور الذي يَمُّنُ الله تعالى به على عباده المؤمنين: ليس معنوياً فقط، بل هو حِّسِّيٌ أيضاً: ما رواه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه: "465-3639-3805" عن أنس بن مالك في شأن أُسَيْد بن حُضَيْر وعَّباد بن بشر -كما تم التصريح باسميهما في آخر موضع- أنهما لما بَقِيا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صَّلَيا العشاء، وأرادا الرجوع إلى أهلهما: كافأهما الله على العناية بأداء هذه الصلاة -والتي هي وصلاة الفجر أثقل الصلاة على المنافقين- كافأهما على العناية بأدائها في الجماعة رغم الظلام بما سترونه في الحديث:--
عن أنس رضي الله عنه: أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحدٌ حتى أتى أهله.
ولا عجب، فلكل واحد من هذين الصحابيين مناقب جليلة.
فمن مناقب أُسَيْد بن حُضَيْر -رضي الله عنه- ما يدلك عليه الحديث الآتي:--
عن أبي سعيد الخدري أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مِرْبَدِهِ -أي مكان تجفيف الرطب حتى يصير تمراً- إذ جالت فرسه فقرأ ثم جالت أخرى فقرأ ثم جالت أيضا قال أسيد فخشيت أن تطأ يحيى -وهو ولده- فقمت إليها فإذا مثل الظلة -أي السحابة- فوق رأسي فيها أمثال السُرُج -أي المصابيح- عرجت في الجو حتى ما أراها قال فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال فقرأت ثم جالت أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال فقرأت ثم جالت أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال فانصرفت وكان يحيى قريبا منها خشيت أن تطأه فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبَحَت يراها الناس ما تستتر منهم".
رواه مسلم برقم: "796" ورواه البخاري مُعَّلَقاً في كتاب فضائل القرآن من صحيحه برقم: "5018".
وقال النووي في الكلام على الحديث في شرحه لصحيح مسلم: "ومعناه كان ينبغي أن تستمر على القرآن، وتغتنم ما حصل لك من نزول السكينة والملائكة، وتستكثر من القراءة التي هي سبب بقائها.
وجاء في البخاري ومسلم -كما سأذكره بعد قليل- بدون تحديد اسم الرجل أنه كان يقرأ سورة الكهف، والذي جاء عن أسيد نفسه في الحديث المعلق في صحيح البخاري أنه كان يقرأ من الليل سورة البقرة، فقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث الذي سأذكره بعد قليل: "لعله قرأ البقرة والكهف أو قرأ من كل منهما، وذكر أن أبا داوود روى من طريق مرسلة أن ثابت بن قيس بن شماس حصل له نفس هذه الكرامة، وأنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تر الليلة أن دار ثابت بن قيس كانت تزهر بأمثال الظلة من المصابيح؟ فقال: "فلعله قرأ سورة البقرة"، فسألوه فقال: قرأت سورة البقرة.
وفي البخاري برقم: "5011" ومسلم برقم: "795" عن البراء بن عازب بدون تسمية القارئ وقال رسول الله "تلك السكينة تنزلت للقرآن".
والسكينة مخلوق من خلق الله تكون مع نزوله الطمأنينة.
وأما عباد بن بشر، فمن مناقبه ما يدل عليه هذان الحديثان:--
1- روى البخاري "2655" ومسلم برقم: "788" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ في المسجد فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا"، وزاد عباد بن عبد الله عن عائشة : تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، "فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال: يا عائشة، أصوت عباد هذا؟ قلت: نعم، قال: اللهم ارحم عباداً".
2- روى أبو داوود برقم: "198" وأحمد بتحقيق الأرنؤوط برقم: "14445" وحسنه الألباني: عن جابر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في غزوة ذات الرقاع فأصاب رجلٌ امرأةَ رجلٍ من المشركين فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دما في أصحاب محمد، فخرج يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل النبي منزلا فقال "من رجلٌ يكلؤنا؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال: "كونا بَفَمِ الشِعْبِ"، قال فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل -أي المشرك الذي أقسم على الانتقام- فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم -أي لما رأى الأنصاري الذي كان قائماً يصلي، عرف أنه عين وحارس للمسلمين- فرماه بسهم فوضعه فيه فنزعه -أي دخل السهم في جسد الصحابي فنزعه واستمر في صلاته- حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد ثم انتبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب -أي لما عرف المشرك أن المسلمين قد علموا به هرب- فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم قال سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى؟ قال كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها.
وقد ذكر البيهقي بعد روايته للحديث في كتابه "دلائل النبوة" أن الأنصاري هو عباد بن بشر، وأن المهاجري هو عمار بن ياسر.
أرأيتم أيها الكرام إلى الصحابي عباد بن بشر يُضرَبُ بالسهام وهو في صلاة الليل وينزف منه الدم ولا يخرج من صلاته، وذلك لأنه لم يُرِدْ أن يقطع قراءة السورة التي كان يقرؤها، وكثيرون منا اليوم -ممن يعرفون فضل القرآن- يقدمون على القرآن -تلاوةً وتدبراً- قراءة مقالات لا تساوي المداد الذي كُتِبَت به، هي عبارة عن كلام في كلام، والحجة عند إخواننا وأخواتنا: إرادة متابعة الواقع ومعرفته!!!، والإحاطة بالواقع لا تستلزم قراءة كل مقال مكتوب في موضوع واحد، اختر مقالاً واحداً فإنه يكفيك، كما لا يحتاج الطعام إلا إلى قليل من المِلْح لِيُسْتساغ، وأقبل على ما ينفع قلبك ويزيد إيمانك ومعرفتك بالله ويزيد في حسناتك التي ربما تحتاج يوم القيامة إلى أن تزيد على سيئاتك بحسنة لتنجو من النار وتدخل الجنة.
أيها الكرام: إذا فَضَلَ من وقتكم بعد القيام بمصالحكم ومصالح من تحت رعايتكم وقتٌ: فلا يريَّنََكُم الله عز وجل تفضلون على تدبر القرآن والسنة شيئاً.
ومن البشارات ما يدل عليه الحديث الآتي:--
عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن وتعلم وعمل به أُلْبِسَ والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما الدنيا، فيقولان بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن".
رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم: "1434".
ومن البشارات أيضاً ما يدل عليه هذان الحديثان الآتيان في فضل الحب في الله عز وجل:--
1- روى الترمذي برقم: "2390" عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل "المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء".
2- وروى أبو داوود برقم: "3527" عن عمر بن الخطاب قال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى" قالوا يارسول الله تخبرنا من هم، قال "هم قوم تحابوا برُوْحِ الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" يونس 62.
والحديثان صحيحان.
قال في عون المعبود: قال الخطابي فسروه -أي برُوْحِ الله- القرآن، وعلى هذا يتأول قوله عز وجل "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا"، سماه روحا، والله أعلم، لأن القلوب تحيى به كما يكون حياة النفوس والأبدان بالأرواح، انتهى
وقال في المجمع: بضم الراء، أي بالقرآن ومتابعته.
وقيل أراد به المحبة أي
يتحابون بما أوقع الله في قلوبهم من المحبة الخالصة لله تعالى.
"إن وجوههم لنور" أي منورة أو ذات نور "لعلى نور" أي على منابر نور.
4-- النهي عن بعض الأعمال التي يكون فعلها سبباً للحرمان من النور:--
ويدل لذلك حديث أخرجه الترمذي برقم: "2821" وابن ماجة برقم: "3721" عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نَتْفِ الشيب وقال إنه نور المسلم، هذا للترمذي، ولابن ماجة: هو نور المؤمن.
والحديث صحيح.
وبعد أيها الكرام: هل وُلِدَت قلوبنا فنهنيها، أو لم تولد ولا هي مكترثة بذلك فنعزيها، أو هي تنتظر الولادة ولكنها تعاني فنؤازرها ونواسيها؟
وفقنا الله لمعرفته، آمين.
كتبه: سعيد شعلان.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
أيها المستقبلون الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:--
أما بعد:--
فإني قد عزمت على أن أرسل إليكم -بدءاً من هذه الرسالة- رسائل تدخل تحت موضوع غاية في الأهمية، ألا وهو: معرفة الله ومحبته وابتغاء مرضاته وثوابه الذي من أعظمه: النظر إلى وجه الله تعالى وسماع كلامه سبحانه في الجنة، فمن حصل له ذلك فقد حصل له الفلاح والنجاة والعافية والسعادة، وهذا هو الخير كله.
تعالوا الآن إلى الدرس الأول: "هل وُلِدَت قلوبنا؟":--
إذا لم يولد القلب فمعنى ذلك أنه ما زال جنيناً في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال، ويترتب على ذلك أن يضعف إيمانه إلى الحد الذي لا يقوى نوره على مقاومة الظلمات الثلاث، ظلمة النفس وظلمة الطبع وظلمة الهوى.
ظلمات ثلاث ليست كالظلمات التي قال الله تعالى عنها في الآية السادسة من سورة الزمر: "يخلقكم في بطون أمهاتكم خَلْقاً من بعد خَلْقٍ في ظُلُماتٍ ثَلاث".
فالظلامات التي يخلقنا الله فيها في بطون أمهاتنا يتبين بالتدبر فيها عظيم قدرة الله في رعاية الجنين في تلك الظلمات -ظلمة البطن وظلمة الرحم وظلمة المشيمة- تخليقاً وحفظاً وتغذيةً ونمواً ثم إذا تم أمره سهل الله العليم القدير الرحيم الكريم اللطيف الخبير خروجه، فليس في ذِكْر تلك الظلمات ذَّمٌ لمن خُلِقَ فيها.
أما الظلمات التي غفل القلب وفَّرَطَ حتى اجتمعت عليه وأحاطت به فسُجِنَ وحُبِسَ فيها: فإنه يُلامُ على غفلته ويُذَّمُ على تفريطه.
أما من تعاهد إيمانه فكان له نور يقاوم تلك الظلمات، فقد وُلِدَ قلبه فنهنئه بمعرفته لربه ومحبته له سبحانه وإيثاره لرضاه على ما يُرْضي نفسه الظالمة الجاهلة: "وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً" الأحزاب 72، وعلى موافقة طبعه الداعي إلى الكسل والفتور والركون إلى الدِعة والراحة: "وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى" النساء 142، وعلى الاستجابة لهواه الداعي إلى إيثار الدنيا على الآخرة: "ولكنه أَخْلَدَ إلى الأرض واتبع هواه" الأعراف 176، هنيئاً له إذ آثر رضا مولاه على إرضاء نفسه وطبعه وهواه.
وأما القلب المتطلع إلى أن يولد لكن يؤخر ولادته تردده بين الخير الذي فيه والشر الذي ينازع ذلك الخير ويحول دون نضج ثماره وتحقق آثاره، فنقول له أعاذك الله من شر نفسك وسيئات عملك وفك أسرك ومَّنَ عليك بالعافية.
وأما القلب المستسلم للظلمات فنقول له: لو عرفت الله بأسمائه وصفاته وأفعاله لأحببته لا محالة، ولو أحببته لأطعته، ولو أطعته لزاد إيمانك، ولو زاد إيمانك لوجدت له حلاوةً وطعماً تكره معه العودة إلى ظلمات النفس والطبع والهوى ولو قُذِفْتَ في النار.
قال ابن القيم -رحمه الله- في ولادة القلوب في كتابه "طريق الهجرتين":--
والمقصود أن القلوب في هذه الولادة ثلاثة:
1- قلب لم يولد ولم يأن له بل هو جنين في بطن الشهوات والغي والجهل والضلال.
2- وقلب قد ولد وخرج إلى فضاء التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب، وأنست بقربه الأرواح، وذَّكَرَتْ رؤيته بالله، فاطمأن بالله وسكن إليه، وعكف بهمته عليه، وسافرت هممه وعزائمه إلى الرفيق الأعلى، لا يقر بشيء غير الله، ولا يسكن إلى شيء سواه، ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عوضا، ولا يجد من الله عوضا أبدا، فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قُوْته، ومعرفته أنيسه، عدوه من جذب قلبه عن الله وإن كان القريب المصافي، ووليه من رده إلى الله وجمع قلبه عليه وإن كان البعيد المناوي. فهذان قلبان متباينان غاية التباين.
3- وقلب ثالث في البرزخ ينتظر الولادة صباحا ومساء، وقد أصبح على فضاء التجريد، وآنس من خلال الديار أشعة التوحيد، تأبى غلبات الحب والشوق إلا تقربا إلى من السعادة كلها بقربه، والحظ كل الحظ في طاعته وحبه، وتأبى غلبات الطباع إلا جذبه وإيقافه وتعويقه، فهو بين الداعيين تارة وتارة، قد قطع عقبات وآفات، وبقي عليه مفاوز وفلوات.
والآن تعالوا إلى غَيْضٍ من فَيْضِ القرآن والسنة في بيان أهمية النور وفضله والدلالة على أن من جعل الله له نورا فقد حصل له كمال حياة قلبه وقُّوَتِهِ الطاردة لجميع أنواع الظلمات، وحصلت له العصمة في سيره إلى الله من الضلال والنجاة من الهلاك.
لقد ذكر الله تعالى في سبعة مواضع من القرآن فضله على عباده في إخراجهم من الظلمات إلى النور برسله الذين أرسلهم -صلوات الله وسلامه عليهم- وكتبه التي أنزلها.
وسأذكر هذه المواضع مع شيء من البيان لها بالإضافة إلى الاستشهاد بآيات أخرى، وبالله التوفيق.
قال الله تعالى: "الله وَلِّيُ الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" البقرة 257.
وقال تعالى: "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يُبَّيِنُ لكم كثيراً مما كنتم تُخْفُوْنَ من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ. يهدي به اللهُ من اتبع رضوانه سُبُلَ السلامِ ويُخْرِجُهُمْ من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيم" المائدة 15-16.
وقال تعالى: "الر كتابٌ أنزلناه إليكَ لِتُخْرِجَ الناسَ من الظلماتِ إلى النور بإذنِ رَّبِهِمْ إلى صراطِ العزيز الحميد. الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويلٌ للكافرين من عذاب شديد. الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عِوَجاً أولئك في ضلال بعيد" إبراهيم 1-3.
وقال تعالى: "ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أَخْرِجْ قَوْمَكَ من الظلمات إلى النور وذَّكِرهم بأيام الله إّن في ذلك لآيات لكل صبار شكور" إبراهيم 5.
وقال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذِكْراً كثيراً. وسبحوه بُكْرَةً وأصيلاً. هو الذي يُصَّلِيْ عليكم وملائكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيماً. تحيتهم يوم يلقونه سلامٌ وأعد لهم أَجْراً كريماً" الأحزاب 41-44.
وقال تعالى: "هو الذي يُنَّزِلُ على عَبْدِهِ آياتٍ بَّيِناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ من الظلمات إلى النور وإّن اللهَ بكم لرؤوفٌ رحيمٌ" الحديد 9.
وقال تعالى: "رسولاً يَتْلُوْ عليكم آياتِ اللهِ مُبَّيِناتٍ لِيُخْرِجَ الذين آمنوا وعَمِلُوا الصالحات من الظلمات إلى النور" الطلاق 11.
قال الشيخ عبد الرحمن بن ناصر بن سعدي في تفسير الموضع الأول من هذه المواضع السبعة وهو الآية 257 من سورة البقرة:--
وهذا يشمل ولايتهم لربهم، بأن تولوه فلا يبغون عنه بدلا ولا يشركون به أحدا، قد اتخذوه حبيبا ووليا، ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه، فتولاهم بلطفه ومَّنَ عليهم بإحسانه، فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى نور الإيمان والطاعة والعلم، وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفُسْحة والسرور.
"والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، فتولوا الشيطان وحزبه، واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولاية ربهم وسيدهم، فسلطهم عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا، ويزعجونهم إلى الشر إزعاجا، فيخرجونهم من نور الإيمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر والجهل والمعاصي، فكان جزاؤهم على ذلك أن حُرِموا الخيرات، وفاتهم النعيم والبهجة والمسرات، وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار الحسرة، فلهذا قال تعالى: "أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون".
وأما الموضع الثاني وهو الآيتان 15-16 من سورة المائدة، فقبل أن أذكر تفسيره للشيخ ابن سعدي: أذكر شيئاً من كلامه -رحمه الله- عن فضل القرآن في مقدمة تفسيره:--
الحمد لله الذي أنزل على عبده الفرقان الفارق بين الحلال والحرام، والسعداء والأشقياء، والحق والباطل.
وجعله برحمته هدى للناس عموما، وللمتقين خصوصا، من ضلال الكفر والمعاصي والجهل، إلى نور الإيمان والتقوى والعلم، وأنزله شفاء للصدور من أمراض الشبهات والشهوات، ويحصل به اليقين والعلم في المطالب العاليات، وشفاء للأبدان من أمراضها وعللها وآلامها وسقمها.
وأخبر أنه لا ريب فيه ولا شك بوجه من الوجوه، وذلك لاشتماله على الحق العظيم في أخباره، وأوامره، ونواهيه، وأنزله مباركا، فيه الخير الكثير، والعلم الغزير، والأسرار البديعة، والمطالب الرفيعة، فكل بركة وسعادة تنال في الدنيا والآخرة، فسببها الاهتداء به واتباعه، وأخبر أنه مصدق ومهيمن على الكتب السابقة، فما يشهد له فهو الحق، وما رده فهو المردود، لأنه تضمنها وزاد عليها. وقال تعالى فيه: "يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام"، فهو هاد لدار السلام، مبين لطريق الوصول إليها، وحاث عليها، كاشف عن الطريق الموصلة إلى دار الآلام ومحذر منها.
وقال تعالى مخبرا عنه: "كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"، فبين آياته أكمل تبيين، وأتقنها أي إتقان، وفصلها بتبيين الحق من الباطل والرشد من الضلال، تفصيلا كاشفا للبس، لكونه صادرا من حكيم خبير، فلا يخبر إلا بالصدق والحق واليقين، ولا يأمر إلا بالعدل والإحسان والبر، ولا ينهى إلا عن المضار الدينية والدنيوية.
والآن إلى تفسير آيتي المائدة 15-16 من كلام الشيخ ابن سعدي:--
لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وأنهم نقضوا ذلك إلا قليلا منهم، أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته، وهي: أنه بين لهم كثيرا مما يخفون عن الناس، حتى عن العوام من أهل ملتهم، فإذا كانوا هم المشار إليهم في العلم ولا علم عند أحد في ذلك الوقت إلا ما عندهم، فالحريص على العلم لا سبيل له إلى إدراكه إلا منهم، فإتيان الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم الذي بين به ما كانوا يتكاتمونه بينهم، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب: من أدل الدلائل على القطع برسالته، وذلك مثل صفة محمد في كتبهم، ووجود البشائر به في كتبهم، وبيان آية الرجم ونحو ذلك.
"ويعفو عن كثير" أي: يترك بيان ما لا تقتضيه الحكمة.
"قد جاءكم من الله نور" وهو القرآن، يستضاء به في ظلمات الجهالة وعماية الضلالة.
"وكتاب مبين" لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم، من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله، ومن العلم بأحكامه الشرعية وأحكامه الجزائية.
ثم ذكر من الذي يهتدي بهذا القرآن، وما هو السبب الذي من العبد لحصول ذلك، فقال: "يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام" أي: يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله، وصار قصده حسنا: سبل السلام التي تسلم صاحبها من العذاب، وتوصله إلى دار السلام، وهو العلم بالحق والعمل به، إجمالا وتفصيلا.
"ويخرجهم من الظلمات إلى النور" ظلمات الكفر والبدعة والمعصية والجهل والغفلة، إلى نور الإيمان والسنة والطاعة والعلم والذكر. وكل هذه الهداية بإذن الله، الذي ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. "ويهديهم إلى صراط مستقيم".
لم يفسر الشيخ هذه الجملة الأخيرة، وقد دل على معناها ما سبق من كلامه رحمه الله.
والمراد بهذه الجملة أن هذا الكتاب المبين يهدي متبعيه إلى طريق يسلمون فيه من الضلال والهلاك، ويصلون في نهايته إلى رضا ربهم وثوابه، لأنه مستقيم لا اعوجاج فيه.
وقال الشيخ ابن سعدي في تفسير الموضع الثالث الذي هو في مطلع سورة إبراهيم:--
يخبر تعالى أنه أنزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق، ليخرج الناس من ظلمات الجهل والكفر والأخلاق السيئة وأنواع المعاصي إلى نور العلم والإيمان والأخلاق الحسنة.
وقوله: "بإذن ربهم" أي: لا يحصل منهم المراد المحبوب لله، إلا بإرادة من الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الاستعانة بربهم.
ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب فقال: "إلى صراط العزيز الحميد" أي: الموصل إليه وإلى دار كرامته، المشتمل على العلم بالحق والعمل به.
وفي ذكر "العزيز الحميد" بعد ذكر الصراط الموصل إليه: إشارة إلى أن من سلكه فهو عزيز بعز الله قوي ولو لم يكن له أنصار إلا الله، محمود في أموره، حسن العاقبة.
وليدل ذلك على أن صراط الله من أكبر الأدلة على ما لله من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وأن الذي نصبه لعباده، عزيز السلطان، حميد في أقواله وأفعاله وأحكامه، وأنه مألوه معبود بالعبادات التي هي منازل الصراط المستقيم، وأنه كما أن له ملك السماوات والأرض خلقا ورزقا وتدبيرا، فله الحكم على عباده بأحكامه الدينية، لأنهم مُلْكُه، ولا يليق به أن يتركهم سدى، فلما بين الدليل والبرهان توعد من لم ينقد لذلك، فقال: "وويل للكافرين من عذاب شديد" لا يُقْدَرُ قدره، ولا يوصف أمره.
ثم وصفهم بأنهم "الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة" فرضوا بها واطمأنوا، وغفلوا عن الدار الآخرة.
"ويصدون" الناس "عن سبيل الله" التي نصبها لعباده وبينها في كتبه وعلى ألسنة رسله، فهؤلاء قد نابذوا مولاهم بالمعاداة والمحاربة، "ويبغونها" أي: سبيل الله "عوجا" أي: يحرصون على تهجينها وتقبيحها، للتنفير عنها، ولكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
"أولئك" الذين ذكر وصفهم "في ضلال بعيد" لأنهم ضلوا وأضلوا، وشاقوا الله ورسوله وحاربوهما، فأي ضلال أبعد من هذا؟!!
وأما أهل الإيمان فبعكس هؤلاء يؤمنون بالله وآياته، ويستحبون الآخرة على الدنيا، ويدعون إلى سبيل الله ويحسنونها مهما أمكنهم، ويبينون استقامتها.
وأختم الكلام على هذه الآية بأن أقول: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أمره الله به، فأخرجنا من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ومن ظلمات الشرك والكفر إلى نور التوحيد والإيمان، ومن ظلمات الجَوْر والإساءة إلى نور العدل والإحسان، ومن ظلمات الفوضى الفكرية والاجتماعية إلى نور الاستقامة في الهدف والسلوك، ومن ظلمات القلق النفسي وضيق الصدر إلى نور الطمأنينة وانشراح الصدر.
وأما الموضع الرابع فقد قال الشيخ ابن سعدي في تفسير الآية 5 من سورة إبراهيم:--
يخبر تعالى: أنه أرسل موسى بآياته العظيمة الدالة على صدق ما جاء به وصحته، وأمره بما أمر به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بل وبما أمر به جميع الرسل قومهم "أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور" أي: ظلمات الجهل والكفر وفروعه، إلى نور العلم والإيمان وتوابعه.
"وذكرهم بأيام الله" أي: بنعمه عليهم وإحسانه إليهم، وبأيامه في الأمم المكذبين، ووقائعه بالكافرين، ليشكروا نعمه وليحذروا عقابه، "إن في ذلك" أي: في أيام الله على العباد "لآيات لكل صبار شكور" أي: صبار في الضراء والعسر والضيق، شكور على السراء والنعمة.
وأما تفسير الموضع الخامس فقد قال الشيخ ابن سعدي في الكلام على الآيات من 41-44 من سورة الأحزاب:--
يأمر تعالى المؤمنين، بذكره ذكرا كثيرا، من تهليل وتحميد وتسبيح وتكبير وغير ذلك، من كل قول فيه قربة إلى الله، وأقل ذلك أن يلازم الإنسان أوراد الصباح والمساء، وأدبار الصلوات الخمس، وعند العوارض والأسباب.
وينبغي مداومة ذلك في جميع الأوقات، على جميع الأحوال، فإن ذلك عبادة يسبق بها العامل وهو مستريح، وداع إلى محبة الله ومعرفته، وعون على الخير، وكف اللسان عن الكلام القبيح.
"وسبحوه بكرة وأصيلا" أي: أول النهار وآخره، لفضلها، وشرفها، وسهولة العمل فيها.
"هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور وكان بالمؤمنين رحيما" أي: من رحمته بالمؤمنين ولطفه بهم أن جعل من صلاته عليهم وثنائه وصلاة ملائكته ودعائهم ما يخرجهم من ظلمات الذنوب والجهل إلى نور الإيمان والتوفيق والعلم والعمل، فهذه أعظم نعمة أنعم بها على العباد الطائعين، تستدعي منهم شكرها والإكثار من ذكر الله الذي لطف بهم ورحمهم، وجعل حملة عرشه أفضل الملائكة، ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون للذين آمنوا فيقولون: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم. وقهم السيئات ومن تَقِ السيئات يومئذ فقد رحمته وذلك هو الفوز العظيم".
فهذه رحمته ونعمته عليهم في الدنيا.
"تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما"، وأما رحمته بهم في الآخرة، فأجل رحمة وأفضل ثواب، وهو الفوز برضا ربهم وتحيته واستماع كلامه الجليل ورؤية وجهه الجميل وحصول الأجر الكبير الذي لا يدري ولا يعرف كنهه إلا من أعطاهم إياه، ولهذا قال: "تحيتهم يوم يلقونه سلام وأعد لهم أجرا كريما".
وأما الموضع السادس وهو الآية 9 من سورة الحديد فقد قال الشيخ ابن سعدي في تفسيرها:--
من لطفه وعنايته بكم أنه لم يكتف بمجرد دعوة الرسول الذي هو أشرف العالم، بل أيده بالمعجزات، ودلكم على صدق ما جاء به بالآيات البينات، فلهذا قال: "هو الذي ينزل على عبده آيات بينات" أي: ظاهرات تدل أهل العقول على صدق كل ما جاء به وأنه حق اليقين. "ليخرجكم" بإرسال الرسول إليكم، وما أنزله على يده من الكتاب والحكمة.
"من الظلمات إلى النور" أي: من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان، وهذا من رحمته بكم ورأفته حيث كان أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
"وإن الله بكم لرؤوف رحيم".
وأما الموضع السابع والأخير وهو في الآية 10 من سورة الطلاق فقد قال الشيخ ابن سعدي في تفسيرها:--
ثم ذَّكَرَ عباده المؤمنين بما أنزل عليهم من كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليخرج الخلق من ظلمات الكفر والجهل والمعصية إلى نور العلم والإيمان والطاعة.
وبعد هذه المواضع السبعة أذكر أيضاً كلام الشيخ ابن سعدي على الآية 122 من سورة الأنعام، وهي قوله تعالى: "أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زُّيِنَ للكافرين ما كانوا يعملون":--
يقول تعالى: "أومن كان" من قبل هداية الله له "ميتا" في ظلمات الكفر والجهل والمعاصي "فأحييناه" بنور العلم والإيمان والطاعة، فصار يمشي بين الناس في النور، متبصرا في أموره مهتديا لسبيله عارفا للخير مؤثرا له مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره، عارفا بالشر مبغضا له مجتهدا في تركه وإزالته عن نفسه وعن غيره. أفيستوي هذا بمن هو في الظلمات -ظلمات الجهل والغي والكفر والمعاصي- "ليس بخارج منها" قد التبست عليه الطرق وأظلمت عليه المسالك فحضره الهم والغم والحزن والشقاء.
فنبه تعالى العقول بما تدركه وتعرفه أنه لا يستوي هذا ولا هذا كما لا يستوي الليل والنهار والضياء والظلمة والأحياء والأموات.
فكأنه قيل: فكيف يؤثر من له أدنى مُسْكةٍ من عقل أن يكون بهذه الحالة وأن يبقى في الظلمات متحيرا؟ فأجاب بأنه "زين للكافرين ما كانوا يعملون" فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم ويزينها في قلوبهم حتى استحسنوها ورأوها حقا. وصار ذلك عقيدة في قلوبهم وصفة راسخة ملازمة لهم، فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح.
وقال الشيخ ابن سعدي -أخيراً- في تفسير قوله تعالى: "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويلٌ للقاسية قلوبهم من ذِكْرِ الله أولئك في ضلال مبين" الزمر 23:--
أي: أفيستوي من شرح الله صدره للإسلام فاتسع لتلقي أحكام الله والعمل بها منشرحا قرير العين على بصيرة من أمره، وهو المراد بقوله: "فهو على نور من ربه" كمن ليس كذلك، بدليل قوله: "فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله" أي: لا تلين لكتابه ولا تتذكر آياته ولا تطمئن بذكره، بل هي معرضة عن ربها ملتفتة إلى غيره، فهؤلاء لهم الويل الشديد، والشر الكبير.
"أولئك في ضلال مبين" وأي ضلال أعظم من ضلال من أعرض عن وليه؟ ومَن كُّلُ السعادة في الإقبال عليه، وقسا قلبه عن ذكره، وأقبل على كل ما يضره؟"
وآخر ما أقوله قبل الانتقال إلى النظر في بعض أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد قال الله تعالى في الآية 40 من سورة النور: "ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور" أي: من لم يعطه الله من الخير والنور إيماناً خالصاً صادقاً وعلماً نافعاً وتوفيقاً للعمل الصالح: فإنه مخذولٌ محرومٌ لا يُرْجى له فلاحٌ والعياذ بالله.
وأما السنة فيمكن إجمال الكلام على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهمية النور وفضله وأثره في كمال حياة القلب وقوته في مقاومة الظلمات وكشفها وتبديدها، وذلك من خلال نقاط:--
1-- الدعاء:--
حفظ ابن عباس -رضي الله عنهما- من دعاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الليلة التي بات فيها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت خالته ميمونة -رضي الله عنها- وهي إحدى أمهات المؤمنين:
"اللهم اجعل في قلبي نورا وفي بصري نورا وفي سمعي نورا وعن يميني نورا وعن يساري نورا وفوقي نورا وتحتي نورا وأمامي نورا وخلفي نورا واجعل لي نورا.
قال كريب: وسبع في التابوت فلقيت رجلا من ولد العباس فحدثني بهن فذكر: عصبي ولحمي ودمي وشعري
وبشري وذكر خصلتين.
رواه البخاري برقم: "6316".
ومعنى كلام كُرَيْب راوي الحديث عن ابن عباس: "وسبع في التابوت" أي ودعا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالنور في سبعة أشياء أخرى من الجسد الذي هو التابوت في كلام كُرَيْب، فذكر منها خمسة، وقيل إن السادسة والسابعة هي المخ والعظام.
وقد جاء عن ابن عباس في نفس الحديث أن هذا الدعاء كان في صلاة الليل التي صلاها مع رسول الله في تلك الليلة، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم دعى بذلك عند الخروج إلى صلاة الصبح.
وقد رواه مسلم برقم: "763" ونصه:
"اللهم اجعل لي في قلبي نورا وفي لساني نورا وفي سمعي نورا وفي بصري نورا ومن فوقي نورا ومن تحتي نورا وعن يميني نورا وعن شمالي نورا ومن بين يدي نورا ومن خلفي نورا واجعل في نفسي نورا وأعظم لي نورا".
وفي نفس الحديث عنده: واجعل لي نورا. واجعلني نورا. وأعطني نورا.
وروى أحمد برقم: "3712" بتحقيق الأرنؤوط "عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب أحدا قط هم ولا حَزَنٌ فقال اللهم إني عبدك بن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماض فِّيَ حكمك عدل فِّيَ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا" قال فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها فقال: "بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها".
صححه الألباني.
2-- وصف بعض الأعمال بأنها نور:--
من ذلك ما جاء في صحيح مسلم برقم: "223" عن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلاة نور".
ومن ذلك ما رواه ابن حبان وصححه الحاكم والألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم: "2233" في فضل تلاوة القرآن وذكر الله عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال:
قلت يا رسول الله أوصني قال "أوصيك بتقوى الله فإنها رأس الأمر كله" قلت يا رسول الله زدني
قال "عليك بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل فإنه نور لك في الأرض وذخر لك في السماء" قلت يا رسول الله زدني قال "إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب ويذهب بنور الوجه" قلت يا رسول الله زدني قال "عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي" قلت يا رسول الله زدني قال "أَحِّبَ المساكين وجالسهم" قلت يا رسول الله زدني قال "انظر إلى من هو تحتك ولا تنظر إلى من هو فوقك فإنه أجدر أن لا تزدري نعمة الله عندك"
قلت يا رسول الله زدني قال "قل الحق وإن كان مرا" قلت يا رسول الله زدني قال "لِيَرُّدَكَ عن الناس ما تعلمه من نفسك، ولا تَجِد عليهم فيما تأتي، وكفى بك عيبا أن تعرف من الناس ما تجهله من نفسك وتجد عليهم فيما تأتي" ثم ضرب بيده على صدري فقال "يا أبا ذر لا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف، ولا حسب كحسن الخلق".
ومن ذلك ما رواه أحمد بتحقيق الأرنؤوط برقم: "1384" عن طلحة بن عبيد الله، وابن ماجة برقم: "3795" عن يحيى بن طلحة عن أمه سُعْدى المُّرِّية، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في فضل كلمة التوحيد:--
"مر عمر بطلحة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لك مكتئبا؟ أساءتك إمرة ابن عمك؟ -يعني خلافة أبي بكر رضي الله عنه- قال: لا، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني لأعلم كلمة لا يقولها أحد عند موته، إلا كانت نورا لصحيفته، وإن جسده وروحه ليجدان لها رَوْحاً عند الموت، فلم أسأله حتى توفي، قال: أنا أعلمها، هي التي أراد عمه عليها، ولو علم أن شيئا أنجى له منها، لأمره".
صححه الألباني والأرنؤوط.
والكلمة التي أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عمه أن يقولها عند موته هي كلمة التوحيد: "لا إله إلا الله".
3-- البشارة على بعض الأعمال الصالحة بالنور:--
ومن ذلك ما رواه أبو داوود برقم: "561" والترمذي برقم: "223" وهو حديث صحيح، عن بُرَيْدة بن الحُصَيْب الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بَّشِرْ المَّشائين في الظُلَمِ إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة".
وإنما قال رسول الله: "بالنور التام" لأن المنافقين يبدأ عقابهم قبل السقوط في نار جهنم -والعياذ بالله- بإطفاء النور الذي معهم عند المرور على الصراط، فيقول المؤمنون عند ذلك كما في الآية 8 من سورة التحريم: "رَّبَنا أَتْمِمْ لنا نورَنا واغفر لنا إنك على كل شيء قدير".
ومن الدلائل على أن النور الذي يَمُّنُ الله تعالى به على عباده المؤمنين: ليس معنوياً فقط، بل هو حِّسِّيٌ أيضاً: ما رواه البخاري في ثلاثة مواضع من صحيحه: "465-3639-3805" عن أنس بن مالك في شأن أُسَيْد بن حُضَيْر وعَّباد بن بشر -كما تم التصريح باسميهما في آخر موضع- أنهما لما بَقِيا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- حتى صَّلَيا العشاء، وأرادا الرجوع إلى أهلهما: كافأهما الله على العناية بأداء هذه الصلاة -والتي هي وصلاة الفجر أثقل الصلاة على المنافقين- كافأهما على العناية بأدائها في الجماعة رغم الظلام بما سترونه في الحديث:--
عن أنس رضي الله عنه: أن رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجا من عند النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة ومعهما مثل المصباحين يضيئان بين أيديهما، فلما افترقا صار مع كل واحد منهما واحدٌ حتى أتى أهله.
ولا عجب، فلكل واحد من هذين الصحابيين مناقب جليلة.
فمن مناقب أُسَيْد بن حُضَيْر -رضي الله عنه- ما يدلك عليه الحديث الآتي:--
عن أبي سعيد الخدري أن أسيد بن حضير بينما هو ليلة يقرأ في مِرْبَدِهِ -أي مكان تجفيف الرطب حتى يصير تمراً- إذ جالت فرسه فقرأ ثم جالت أخرى فقرأ ثم جالت أيضا قال أسيد فخشيت أن تطأ يحيى -وهو ولده- فقمت إليها فإذا مثل الظلة -أي السحابة- فوق رأسي فيها أمثال السُرُج -أي المصابيح- عرجت في الجو حتى ما أراها قال فغدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله بينما أنا البارحة من جوف الليل أقرأ في مربدي إذ جالت فرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال فقرأت ثم جالت أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال فقرأت ثم جالت أيضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ ابن حضير، قال فانصرفت وكان يحيى قريبا منها خشيت أن تطأه فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج عرجت في الجو حتى ما أراها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلك الملائكة كانت تستمع لك، ولو قرأت لأصبَحَت يراها الناس ما تستتر منهم".
رواه مسلم برقم: "796" ورواه البخاري مُعَّلَقاً في كتاب فضائل القرآن من صحيحه برقم: "5018".
وقال النووي في الكلام على الحديث في شرحه لصحيح مسلم: "ومعناه كان ينبغي أن تستمر على القرآن، وتغتنم ما حصل لك من نزول السكينة والملائكة، وتستكثر من القراءة التي هي سبب بقائها.
وجاء في البخاري ومسلم -كما سأذكره بعد قليل- بدون تحديد اسم الرجل أنه كان يقرأ سورة الكهف، والذي جاء عن أسيد نفسه في الحديث المعلق في صحيح البخاري أنه كان يقرأ من الليل سورة البقرة، فقال الحافظ ابن حجر في شرح الحديث الذي سأذكره بعد قليل: "لعله قرأ البقرة والكهف أو قرأ من كل منهما، وذكر أن أبا داوود روى من طريق مرسلة أن ثابت بن قيس بن شماس حصل له نفس هذه الكرامة، وأنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألم تر الليلة أن دار ثابت بن قيس كانت تزهر بأمثال الظلة من المصابيح؟ فقال: "فلعله قرأ سورة البقرة"، فسألوه فقال: قرأت سورة البقرة.
وفي البخاري برقم: "5011" ومسلم برقم: "795" عن البراء بن عازب بدون تسمية القارئ وقال رسول الله "تلك السكينة تنزلت للقرآن".
والسكينة مخلوق من خلق الله تكون مع نزوله الطمأنينة.
وأما عباد بن بشر، فمن مناقبه ما يدل عليه هذان الحديثان:--
1- روى البخاري "2655" ومسلم برقم: "788" عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقرأ في المسجد فقال: رحمه الله، لقد أذكرني كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا وكذا"، وزاد عباد بن عبد الله عن عائشة : تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي، "فسمع صوت عباد يصلي في المسجد فقال: يا عائشة، أصوت عباد هذا؟ قلت: نعم، قال: اللهم ارحم عباداً".
2- روى أبو داوود برقم: "198" وأحمد بتحقيق الأرنؤوط برقم: "14445" وحسنه الألباني: عن جابر قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني في غزوة ذات الرقاع فأصاب رجلٌ امرأةَ رجلٍ من المشركين فحلف أن لا أنتهي حتى أهريق دما في أصحاب محمد، فخرج يتبع أثر النبي صلى الله عليه وسلم فنزل النبي منزلا فقال "من رجلٌ يكلؤنا؟ فانتدب رجل من المهاجرين ورجل من الأنصار، فقال: "كونا بَفَمِ الشِعْبِ"، قال فلما خرج الرجلان إلى فم الشعب اضطجع المهاجري وقام الأنصاري يصلي، وأتى الرجل -أي المشرك الذي أقسم على الانتقام- فلما رأى شخصه عرف أنه ربيئة للقوم -أي لما رأى الأنصاري الذي كان قائماً يصلي، عرف أنه عين وحارس للمسلمين- فرماه بسهم فوضعه فيه فنزعه -أي دخل السهم في جسد الصحابي فنزعه واستمر في صلاته- حتى رماه بثلاثة أسهم، ثم ركع وسجد ثم انتبه صاحبه فلما عرف أنهم قد نذروا به هرب -أي لما عرف المشرك أن المسلمين قد علموا به هرب- فلما رأى المهاجري ما بالأنصاري من الدم قال سبحان الله ألا أنبهتني أول ما رمى؟ قال كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها.
وقد ذكر البيهقي بعد روايته للحديث في كتابه "دلائل النبوة" أن الأنصاري هو عباد بن بشر، وأن المهاجري هو عمار بن ياسر.
أرأيتم أيها الكرام إلى الصحابي عباد بن بشر يُضرَبُ بالسهام وهو في صلاة الليل وينزف منه الدم ولا يخرج من صلاته، وذلك لأنه لم يُرِدْ أن يقطع قراءة السورة التي كان يقرؤها، وكثيرون منا اليوم -ممن يعرفون فضل القرآن- يقدمون على القرآن -تلاوةً وتدبراً- قراءة مقالات لا تساوي المداد الذي كُتِبَت به، هي عبارة عن كلام في كلام، والحجة عند إخواننا وأخواتنا: إرادة متابعة الواقع ومعرفته!!!، والإحاطة بالواقع لا تستلزم قراءة كل مقال مكتوب في موضوع واحد، اختر مقالاً واحداً فإنه يكفيك، كما لا يحتاج الطعام إلا إلى قليل من المِلْح لِيُسْتساغ، وأقبل على ما ينفع قلبك ويزيد إيمانك ومعرفتك بالله ويزيد في حسناتك التي ربما تحتاج يوم القيامة إلى أن تزيد على سيئاتك بحسنة لتنجو من النار وتدخل الجنة.
أيها الكرام: إذا فَضَلَ من وقتكم بعد القيام بمصالحكم ومصالح من تحت رعايتكم وقتٌ: فلا يريَّنََكُم الله عز وجل تفضلون على تدبر القرآن والسنة شيئاً.
ومن البشارات ما يدل عليه الحديث الآتي:--
عن بريدة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرأ القرآن وتعلم وعمل به أُلْبِسَ والداه يوم القيامة تاجاً من نور ضوؤه مثل ضوء الشمس ويكسى والداه حلتين لا يقوم لهما الدنيا، فيقولان بم كسينا هذا؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن".
رواه الحاكم وقال صحيح على شرط مسلم، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب برقم: "1434".
ومن البشارات أيضاً ما يدل عليه هذان الحديثان الآتيان في فضل الحب في الله عز وجل:--
1- روى الترمذي برقم: "2390" عن معاذ بن جبل قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل "المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء".
2- وروى أبو داوود برقم: "3527" عن عمر بن الخطاب قال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله لأناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله تعالى" قالوا يارسول الله تخبرنا من هم، قال "هم قوم تحابوا برُوْحِ الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم على نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس، وقرأ هذه الآية "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" يونس 62.
والحديثان صحيحان.
قال في عون المعبود: قال الخطابي فسروه -أي برُوْحِ الله- القرآن، وعلى هذا يتأول قوله عز وجل "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا"، سماه روحا، والله أعلم، لأن القلوب تحيى به كما يكون حياة النفوس والأبدان بالأرواح، انتهى
وقال في المجمع: بضم الراء، أي بالقرآن ومتابعته.
وقيل أراد به المحبة أي
يتحابون بما أوقع الله في قلوبهم من المحبة الخالصة لله تعالى.
"إن وجوههم لنور" أي منورة أو ذات نور "لعلى نور" أي على منابر نور.
4-- النهي عن بعض الأعمال التي يكون فعلها سبباً للحرمان من النور:--
ويدل لذلك حديث أخرجه الترمذي برقم: "2821" وابن ماجة برقم: "3721" عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نَتْفِ الشيب وقال إنه نور المسلم، هذا للترمذي، ولابن ماجة: هو نور المؤمن.
والحديث صحيح.
وبعد أيها الكرام: هل وُلِدَت قلوبنا فنهنيها، أو لم تولد ولا هي مكترثة بذلك فنعزيها، أو هي تنتظر الولادة ولكنها تعاني فنؤازرها ونواسيها؟
وفقنا الله لمعرفته، آمين.
كتبه: سعيد شعلان.