[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد خلق الله كل شيء من زوجين كما قال -تعالى-: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات:49)، وجعل الله هذه سنة في خلقه؛ لتذكرة العباد إلى التفكر فيما جعله بين كل زوجين من سكن وهدوء وراحة.
وخلق الله الإنسان كذلك من زوجين (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى) (النجم:45)، ثم شرع لهما ما يقوي بينهما عاطفة المودة والسكن من الزواج والمناكحة، وجعل هذا الأصل من آياته -تعالى- التي أرشد عباده إلى التفكر فيها، فإن علاقة الزوج بزوجته ليست علاقة مادية بحتة أو علاقة شهوانية محضة، بل علاقة روحية إيمانية. ومن غفلة الناس أن يكون مبلغ علمهم في العلاقة بين الأزواج ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
ولو تفكر الإنسان في علاقته بزوجه لوجد عجبًا في تلك الآية؛ فإن الله لو جعل بني آدم كلهم ذكورًا وجعل إناثهم من جنس آخر لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نَفْرَة لو كانت الأزواج من غير الجنس، فإن المجانسة من دواعي النظام والتعارف كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر، لكن الله -سبحانه- خلق كلاً من الجنسين على نحو يجعله موافقًا للآخر، ملبيًا لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة.
وقد شرع الله في الزواج أسرارًا وآدابًا تعين الزوجين على العيش في سكن وراحة، ومودة ورحمة، وألفة وتواصل، وحياة سعيدة هنية، ومن ذلك:
(1) استشعار أسرار النكاح وفضائله:
قد قال الله -عز وجل-: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21).
فمن آيات الله أن جعل قلوب الرجال تأنس إلى أزواجها وتستقر عندها؛ لأن الرجل إذا طاف البلدان، لا يستقر قلبه، فإذا رجع إلى أهله، اطمأن واستقر.
ومن آياته أنه جعل الزواج ترويحًا للنفس وإيناسًا بالمجالسة والنظر والملاعبة، وإراحة للقلب وتقوية له على العبادة، وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروِّح القلب. وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات؛ ولذلك قال الله -تعالى-: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
ومن آياته أنه جعل بين الزوجين من المودة والرحمة ما يتوادان ويتراحمان به من غير سابقة معرفة ولا قرابة ولا سبب يوجب التعاطف، وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير تراحم بينهما إلا الزوجان، وكذلك لا يحب واحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه مع ما طبع عليه الإنسان من حب الاستئثار، فإن الود أول التخلص من داء أثر الدنيا من الغل والشحناء، فمن ود لا يقاطع، ومن أحب واصل وآثر.
وسبحان الله فإنها آية تستحق الوقوف والتدبر والتأمل؛ فإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء.
ومن آياته أن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمته بها، بأن يكون لها منه ولد، أو تكون محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما، وغير ذلك.
ومن آياته أنه جعل الزواج حصنًا من الشيطان، ودافعًا لغوائل الشهوة، ومعينًا على غض البصر وحفظ الفرج، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) (متفق عليه).
ومن آياته أنه جعل الزوجة الصالحة خير متاع الدنيا وأحد أسباب السعادة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) (رواه مسلم).
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة تراها تعجبك وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق) (رواه الحاكم، وحسنه الألباني).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي) (رواه الطبراني والحاكم والبيهقي، وحسنه الألباني).
ومن آياته أنه جعل الزواج من أيسر الطرق لتحصيل الخيرات وكسب الحسنات، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله قال له: (إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ) (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) (رواه مسلم).
قال النووي -رحمه الله-: "(بُضْعِ) هو: بضم الباء، ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصح إرادته هنا. وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاءَ حقِّ الزوجة ومعاشرتَها بالمعروف الذي أمر الله -تعالى- به، أو طلبَ ولدٍ صالح أو إعفافَ نفسه أو إعفافَ الزوجة، ومنعَهما جميعا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به، ذلك من المقاصد الصالحة" (شرح مسلم:8/183).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فمن المحبة النافعة محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله -سبحانه- له من النكاح وملك اليمين من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتمَّ وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل" (إغاثة اللهفان:2/139).
وقال -رحمه الله-:
استدل على تفضيل النكاح على التخلي لنوافل العبادة بأن الله -تعالى- اختاره النكاح لأنبيائه ورسله؛ فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً)، وقال في حق آدم -عليه السلام-: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، واقتطع من زمن كليمه عشر سنين في رعاية الغنم مهر الزوجة، ومعلوم مقدار هذه السنين العشر في نوافل العبادات، واختار لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأشياء فلم يحب له ترك النكاح، بل زوَّجه بتسع فما فوقهن، ولا هدي فوقه هديه -صلى الله عليه وسلم-.
ولو لم يكن فيه إلا سرور النبي يوم المباهاة بأمته.
ولو لم يكن فيه إلا انه بصدد أنه لا ينقطع عمله بموته.
ولو لم يكن فيه إلا أنه يخرج من صلبه من يشهد بالله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة.
ولو لم يكن فيه إلا غض بصره وإحصان فرجه عن التفاته إلى ما حرم الله -تعالى-.
ولو لم يكن فيه إلا تحصين امرأة يعفها الله به ويثيبه على قضاء وطره ووطرها فهو في لذاته وصحائف حسناته تتزايد.
ولو لم يكن فيه إلا ما يثاب عليه من نفقته على امرأته وكسوتها ومسكنها ورفع اللقمة إلى فيها.
ولو لم يكن فيه إلا تكثير الإسلام وأهله وغيظ أعداء الإسلام.
ولو لم يكن فيه إلا ما يترتب عليه من العبادات التي لا تحصل للمتخلي للنوافل.
ولو لم يكن فيه إلا تعديل قوته الشهوانية الصارفة له عن تعلق قلبه بما هو أنفع له في دينه ودنياه؛ فإن تعلق القلب بالشهوة أو مجاهدته عليها تصده عن تعلقه بما هو أنفع له، فإن الهمة متى انصرفت إلى شيء انصرفت عن غيره.
ولو لم يكن فيه إلا تعرضه لبنات إذا صبر عليهن وأحسن إليهن كُنَّ له سترًا من النار.
ولو لم يكن فيه إلا أنه إذا قدم له فرطين لم يبلغا الحنث أدخله الله بهما الجنة.
ولو لم يكن فيه إلا استجلابه عون الله له؛ فإن في الحديث المرفوع: (ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)" انتهى كلامه -رحمه الله- (بدائع الفوائد:3/158-159).
(2) حسن العشرة بين الزوجين:
قال -تعالى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء:19)، وقال الله -عز وجل-: (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة:237).
فعلى الزوجين معًا أن يستحضرا في تعاملهما المودة والرحمة، ثم إنْ حدث تقصير أو سوء تصرف فلا ينسيا الإحسان بينهما، فإن القرآن يظل يلاحق هذه القلوب كي تصفو وترق وتخلو من كل شائبة، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يلاحقها باستجاشة شعور التقوى، ويلاحقها باستجاشة شعور السماحة والتفضل، ويلاحقها باستجاشة شعور مراقبة الله؛ ليسود التجمل والتفضل جو هذه العلاقة ناجحة كانت أم خائبة، ولتبقى القلوب نقية خالصة صافية، موصولة بالله في كل حال.
ومن حسن العشرة مؤانسة الزوجة وإدخال السرور عليها وملاطفتها بشيء من اللهو المباح، فعن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَالَ: (هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
وعنها -رضي الله عنها- قالت: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ يُبَادِرُنِي وَأُبَادِرُهُ حَتَّى يَقُولَ: (دَعِي لِي). وَأَقُولُ أَنَا دَعْ لِي. (رواه النسائي، وأصله في الصحيحين).
وعنها -رضي الله عنها- قالت: كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ فَيَشْرَبُ وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ. (رواه مسلم). العَرْق: بفتح العين المهملة وسكون الراء، هو العظم الذي عليه بقية من اللحم.
قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ): "أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله، كما قال -تعالى-: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة:228)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)، وكان من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال: (هَذِهِ بِتِلْكَ)، ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤانسهم بذلك -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال -تعالى-: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب:21)" (تفسير القرآن العظيم:1/477).
ومن حسن العشرة الإحسان إلى الزوجة، وعدم الإساءة إليها أو إلى أبويها، وألا يضرب الوجه أو يقبح، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن عمرو بن الأحوص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حجة الوداع: (أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني)، وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حق الزوجة: (وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ وَلاَ تَهْجُرْ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).
ولو استحضرنا هذا الأصل في التعامل بين الزوجين لعالجنا الأخطاء الزوجية بيسر كما عالجها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فينبغي التماس المعاذير، وتقديم حسن الظن، والتعامي عن الهفوات، والمسارعة إلى الاعتذار إن تبين الخطأ.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: (غَارَتْ أُمُّكُمْ)، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِىَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ. (رواه البخاري).
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل أن يتفهم طبيعة المرأة، بأن يتنزل إلى اعوجاجها، لا أن يحاول تقويم طبيعتها النسائية التي خلقها الله عليها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) (متفق عليه)، وفي رواية لمسلم: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا).
وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ وَإِنَّكَ إِنْ تُرِدْ إِقَامَةَ الضِّلْعِ تَكْسِرْهَا فَدَارِهَا تَعِشْ بِهَا) (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) (رواه مسلم).
قال الشوكاني -رحمه الله-: "فيه الإرشاد إلى حسن العشرة، والنهي عن البغض للزوجة بمجرد كراهة خُلُق من أخلاقها، فإنها لا تخلو مع ذلك عن أمر يرضاه منها، وإذا كانت مشتملة على المحبوب والمكروه فلا ينبغي ترجيح مقتضى الكراهة على مقتضى المحبة" (نيل الأوطار:6/358).
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إني لأتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي".
وكان من وصية أبي الدرداء لامرأته -رضي الله عنه-: "إذا رأيتني غضبت فَرَضّني، وإذا رأيتك غضبى رضيتك، وإلا لم نصطحب".
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "أقامت أم صالح معي عشرين سنة, فما اختلفت أنا وهي في كلمة".
والمرأة العاقلة هي التي تسترضي زوجها وتستعتبه إذا غضب، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟). قلنا: بلى يا رسول الله. قال: (ودود ولود، إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).
فانظري أيتها المسلمة كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- من صفات الزوجة الصالحة أن تطيب خاطر زوجها، وأن تبادر في الإحسان إليه حتى وإن كانت هي التي أسيء إليها، وتلك درجة لا يصل إليها إلا القليل.
وما أجمل ما نقل عن سُعدى زوجة طلحة بن عبيد الله؛ فعن طلحة بن يحيى عن جدته سعدى قالت: "دخلت يومًا على طلحة فرأيت منه ثقلاً، فقلت له: ما لك لعله رابك منا شيء فنُعتِبُك؟ قال: لا، ولنعم حليلة المرء المسلم أنتِ، ولكن اجتمع عندي مال ولا أدري كيف أصنع به. قالت: وما يغمك منه؟ ادع قومك فاقسمه بينهم. فقال: يا غلام علي بقومي. فسألت الخازن: كم قسم؟ قال: أربعمائة ألف".
وانظري كيف اهتمت لغم زوجها، وظنت أنه بسببها، فأجملت في العتبى فأجمل لها في الرد.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛ فقد خلق الله كل شيء من زوجين كما قال -تعالى-: (وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (الذاريات:49)، وجعل الله هذه سنة في خلقه؛ لتذكرة العباد إلى التفكر فيما جعله بين كل زوجين من سكن وهدوء وراحة.
وخلق الله الإنسان كذلك من زوجين (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى) (النجم:45)، ثم شرع لهما ما يقوي بينهما عاطفة المودة والسكن من الزواج والمناكحة، وجعل هذا الأصل من آياته -تعالى- التي أرشد عباده إلى التفكر فيها، فإن علاقة الزوج بزوجته ليست علاقة مادية بحتة أو علاقة شهوانية محضة، بل علاقة روحية إيمانية. ومن غفلة الناس أن يكون مبلغ علمهم في العلاقة بين الأزواج ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.
ولو تفكر الإنسان في علاقته بزوجه لوجد عجبًا في تلك الآية؛ فإن الله لو جعل بني آدم كلهم ذكورًا وجعل إناثهم من جنس آخر لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نَفْرَة لو كانت الأزواج من غير الجنس، فإن المجانسة من دواعي النظام والتعارف كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر، لكن الله -سبحانه- خلق كلاً من الجنسين على نحو يجعله موافقًا للآخر، ملبيًا لحاجته الفطرية: نفسية وعقلية وجسدية بحيث يجد عنده الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء، والمودة والرحمة.
وقد شرع الله في الزواج أسرارًا وآدابًا تعين الزوجين على العيش في سكن وراحة، ومودة ورحمة، وألفة وتواصل، وحياة سعيدة هنية، ومن ذلك:
(1) استشعار أسرار النكاح وفضائله:
قد قال الله -عز وجل-: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21).
فمن آيات الله أن جعل قلوب الرجال تأنس إلى أزواجها وتستقر عندها؛ لأن الرجل إذا طاف البلدان، لا يستقر قلبه، فإذا رجع إلى أهله، اطمأن واستقر.
ومن آياته أنه جعل الزواج ترويحًا للنفس وإيناسًا بالمجالسة والنظر والملاعبة، وإراحة للقلب وتقوية له على العبادة، وفي الاستئناس بالنساء من الاستراحة ما يزيل الكرب ويروِّح القلب. وينبغي أن يكون لنفوس المتقين استراحات بالمباحات؛ ولذلك قال الله -تعالى-: (لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، وقال -صلى الله عليه وسلم-: (حُبِّبَ إِلَيَّ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاَةِ) (رواه أحمد والنسائي، وصححه الألباني).
ومن آياته أنه جعل بين الزوجين من المودة والرحمة ما يتوادان ويتراحمان به من غير سابقة معرفة ولا قرابة ولا سبب يوجب التعاطف، وما شيء أحب إلى أحدهما من الآخر من غير تراحم بينهما إلا الزوجان، وكذلك لا يحب واحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه مع ما طبع عليه الإنسان من حب الاستئثار، فإن الود أول التخلص من داء أثر الدنيا من الغل والشحناء، فمن ود لا يقاطع، ومن أحب واصل وآثر.
وسبحان الله فإنها آية تستحق الوقوف والتدبر والتأمل؛ فإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء.
ومن آياته أن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمته بها، بأن يكون لها منه ولد، أو تكون محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما، وغير ذلك.
ومن آياته أنه جعل الزواج حصنًا من الشيطان، ودافعًا لغوائل الشهوة، ومعينًا على غض البصر وحفظ الفرج، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) (متفق عليه).
ومن آياته أنه جعل الزوجة الصالحة خير متاع الدنيا وأحد أسباب السعادة، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ) (رواه مسلم).
وعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ثلاثة من السعادة: المرأة الصالحة تراها تعجبك وتغيب فتأمنها على نفسها ومالك، والدابة تكون وطيئة فتلحقك بأصحابك، والدار تكون واسعة كثيرة المرافق) (رواه الحاكم، وحسنه الألباني).
وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي) (رواه الطبراني والحاكم والبيهقي، وحسنه الألباني).
ومن آياته أنه جعل الزواج من أيسر الطرق لتحصيل الخيرات وكسب الحسنات، فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله قال له: (إِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلاَّ أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فِي امْرَأَتِكَ) (رواه البخاري ومسلم).
وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ) (رواه مسلم).
قال النووي -رحمه الله-: "(بُضْعِ) هو: بضم الباء، ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه، وكلاهما تصح إرادته هنا. وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاءَ حقِّ الزوجة ومعاشرتَها بالمعروف الذي أمر الله -تعالى- به، أو طلبَ ولدٍ صالح أو إعفافَ نفسه أو إعفافَ الزوجة، ومنعَهما جميعا من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به، ذلك من المقاصد الصالحة" (شرح مسلم:8/183).
وقال ابن القيم -رحمه الله-: "فمن المحبة النافعة محبة الزوجة وما ملكت يمين الرجل، فإنها معينة على ما شرع الله -سبحانه- له من النكاح وملك اليمين من إعفاف الرجل نفسه وأهله، فلا تطمح نفسه إلى سواها من الحرام، ويعفها فلا تطمح نفسها إلى غيره، وكلما كانت المحبة بين الزوجين أتمَّ وأقوى كان هذا المقصود أتم وأكمل" (إغاثة اللهفان:2/139).
وقال -رحمه الله-:
استدل على تفضيل النكاح على التخلي لنوافل العبادة بأن الله -تعالى- اختاره النكاح لأنبيائه ورسله؛ فقال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً)، وقال في حق آدم -عليه السلام-: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا)، واقتطع من زمن كليمه عشر سنين في رعاية الغنم مهر الزوجة، ومعلوم مقدار هذه السنين العشر في نوافل العبادات، واختار لنبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- أفضل الأشياء فلم يحب له ترك النكاح، بل زوَّجه بتسع فما فوقهن، ولا هدي فوقه هديه -صلى الله عليه وسلم-.
ولو لم يكن فيه إلا سرور النبي يوم المباهاة بأمته.
ولو لم يكن فيه إلا انه بصدد أنه لا ينقطع عمله بموته.
ولو لم يكن فيه إلا أنه يخرج من صلبه من يشهد بالله بالوحدانية ولرسوله بالرسالة.
ولو لم يكن فيه إلا غض بصره وإحصان فرجه عن التفاته إلى ما حرم الله -تعالى-.
ولو لم يكن فيه إلا تحصين امرأة يعفها الله به ويثيبه على قضاء وطره ووطرها فهو في لذاته وصحائف حسناته تتزايد.
ولو لم يكن فيه إلا ما يثاب عليه من نفقته على امرأته وكسوتها ومسكنها ورفع اللقمة إلى فيها.
ولو لم يكن فيه إلا تكثير الإسلام وأهله وغيظ أعداء الإسلام.
ولو لم يكن فيه إلا ما يترتب عليه من العبادات التي لا تحصل للمتخلي للنوافل.
ولو لم يكن فيه إلا تعديل قوته الشهوانية الصارفة له عن تعلق قلبه بما هو أنفع له في دينه ودنياه؛ فإن تعلق القلب بالشهوة أو مجاهدته عليها تصده عن تعلقه بما هو أنفع له، فإن الهمة متى انصرفت إلى شيء انصرفت عن غيره.
ولو لم يكن فيه إلا تعرضه لبنات إذا صبر عليهن وأحسن إليهن كُنَّ له سترًا من النار.
ولو لم يكن فيه إلا أنه إذا قدم له فرطين لم يبلغا الحنث أدخله الله بهما الجنة.
ولو لم يكن فيه إلا استجلابه عون الله له؛ فإن في الحديث المرفوع: (ثَلاَثَةٌ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ عَوْنُهُمُ: الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمُكَاتَبُ الَّذِي يُرِيدُ الأَدَاءَ، وَالنَّاكِحُ الَّذِي يُرِيدُ الْعَفَافَ) (رواه الترمذي، وحسنه الألباني)" انتهى كلامه -رحمه الله- (بدائع الفوائد:3/158-159).
(2) حسن العشرة بين الزوجين:
قال -تعالى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (النساء:19)، وقال الله -عز وجل-: (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) (البقرة:237).
فعلى الزوجين معًا أن يستحضرا في تعاملهما المودة والرحمة، ثم إنْ حدث تقصير أو سوء تصرف فلا ينسيا الإحسان بينهما، فإن القرآن يظل يلاحق هذه القلوب كي تصفو وترق وتخلو من كل شائبة، (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) يلاحقها باستجاشة شعور التقوى، ويلاحقها باستجاشة شعور السماحة والتفضل، ويلاحقها باستجاشة شعور مراقبة الله؛ ليسود التجمل والتفضل جو هذه العلاقة ناجحة كانت أم خائبة، ولتبقى القلوب نقية خالصة صافية، موصولة بالله في كل حال.
ومن حسن العشرة مؤانسة الزوجة وإدخال السرور عليها وملاطفتها بشيء من اللهو المباح، فعن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّهَا كَانَتْ مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فِي سَفَرٍ قَالَتْ: فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ عَلَى رِجْلَيَّ فَلَمَّا حَمَلْتُ اللَّحْمَ سَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِي فَقَالَ: (هَذِهِ بِتِلْكَ السَّبْقَةِ) (رواه أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
وعنها -رضي الله عنها- قالت: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ يُبَادِرُنِي وَأُبَادِرُهُ حَتَّى يَقُولَ: (دَعِي لِي). وَأَقُولُ أَنَا دَعْ لِي. (رواه النسائي، وأصله في الصحيحين).
وعنها -رضي الله عنها- قالت: كُنْتُ أَشْرَبُ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ فَيَشْرَبُ وَأَتَعَرَّقُ الْعَرْقَ وَأَنَا حَائِضٌ ثُمَّ أُنَاوِلُهُ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَيَضَعُ فَاهُ عَلَى مَوْضِعِ فِيَّ. (رواه مسلم). العَرْق: بفتح العين المهملة وسكون الراء، هو العظم الذي عليه بقية من اللحم.
قال ابن كثير -رحمه الله- في قوله -تعالى-: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ): "أي: طيبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله، كما قال -تعالى-: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (البقرة:228)، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي)، وكان من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال: (هَذِهِ بِتِلْكَ)، ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤانسهم بذلك -صلى الله عليه وسلم-، وقد قال -تعالى-: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (الأحزاب:21)" (تفسير القرآن العظيم:1/477).
ومن حسن العشرة الإحسان إلى الزوجة، وعدم الإساءة إليها أو إلى أبويها، وألا يضرب الوجه أو يقبح، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لأَهْلِي) (رواه الترمذي، وصححه الألباني)، وعن عمرو بن الأحوص أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال في حجة الوداع: (أَلاَ وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ) (رواه الترمذي وابن ماجه، وحسنه الألباني)، وعن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في حق الزوجة: (وَلاَ تَضْرِبِ الْوَجْهَ وَلاَ تُقَبِّحْ وَلاَ تَهْجُرْ إِلاَّ فِي الْبَيْتِ) (رواه أحمد وأبو داود، وحسنه الألباني).
ولو استحضرنا هذا الأصل في التعامل بين الزوجين لعالجنا الأخطاء الزوجية بيسر كما عالجها النبي -صلى الله عليه وسلم-، فينبغي التماس المعاذير، وتقديم حسن الظن، والتعامي عن الهفوات، والمسارعة إلى الاعتذار إن تبين الخطأ.
عن أنس -رضي الله عنه- قال: كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ فَأَرْسَلَتْ إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بِصَحْفَةٍ فِيهَا طَعَامٌ، فَضَرَبَتِ الَّتِي النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِي بَيْتِهَا يَدَ الْخَادِمِ فَسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فَانْفَلَقَتْ، فَجَمَعَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- فِلَقَ الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يَجْمَعُ فِيهَا الطَّعَامَ الَّذِي كَانَ فِي الصَّحْفَةِ وَيَقُولُ: (غَارَتْ أُمُّكُمْ)، ثُمَّ حَبَسَ الْخَادِمَ حَتَّى أُتِىَ بِصَحْفَةٍ مِنْ عِنْدِ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا، فَدَفَعَ الصَّحْفَةَ الصَّحِيحَةَ إِلَى الَّتِي كُسِرَتْ صَحْفَتُهَا، وَأَمْسَكَ الْمَكْسُورَةَ فِي بَيْتِ الَّتِي كَسَرَتْ. (رواه البخاري).
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل أن يتفهم طبيعة المرأة، بأن يتنزل إلى اعوجاجها، لا أن يحاول تقويم طبيعتها النسائية التي خلقها الله عليها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا، فَإِنَّهُنَّ خُلِقْنَ مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا) (متفق عليه)، وفي رواية لمسلم: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ لَنْ تَسْتَقِيمَ لَكَ عَلَى طَرِيقَةٍ فَإِنِ اسْتَمْتَعْتَ بِهَا اسْتَمْتَعْتَ بِهَا وَبِهَا عِوَجٌ وَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهَا كَسَرْتَهَا وَكَسْرُهَا طَلاَقُهَا).
وعن سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلْعٍ وَإِنَّكَ إِنْ تُرِدْ إِقَامَةَ الضِّلْعِ تَكْسِرْهَا فَدَارِهَا تَعِشْ بِهَا) (رواه أحمد وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني).
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لاَ يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ) (رواه مسلم).
قال الشوكاني -رحمه الله-: "فيه الإرشاد إلى حسن العشرة، والنهي عن البغض للزوجة بمجرد كراهة خُلُق من أخلاقها، فإنها لا تخلو مع ذلك عن أمر يرضاه منها، وإذا كانت مشتملة على المحبوب والمكروه فلا ينبغي ترجيح مقتضى الكراهة على مقتضى المحبة" (نيل الأوطار:6/358).
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "إني لأتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي".
وكان من وصية أبي الدرداء لامرأته -رضي الله عنه-: "إذا رأيتني غضبت فَرَضّني، وإذا رأيتك غضبى رضيتك، وإلا لم نصطحب".
وقال الإمام أحمد -رحمه الله-: "أقامت أم صالح معي عشرين سنة, فما اختلفت أنا وهي في كلمة".
والمرأة العاقلة هي التي تسترضي زوجها وتستعتبه إذا غضب، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ألا أخبركم بنسائكم في الجنة؟). قلنا: بلى يا رسول الله. قال: (ودود ولود، إذا غضبت أو أسيء إليها أو غضب زوجها قالت: هذه يدي في يدك لا أكتحل بغمض حتى ترضى) (رواه الطبراني، وصححه الألباني).
فانظري أيتها المسلمة كيف جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- من صفات الزوجة الصالحة أن تطيب خاطر زوجها، وأن تبادر في الإحسان إليه حتى وإن كانت هي التي أسيء إليها، وتلك درجة لا يصل إليها إلا القليل.
وما أجمل ما نقل عن سُعدى زوجة طلحة بن عبيد الله؛ فعن طلحة بن يحيى عن جدته سعدى قالت: "دخلت يومًا على طلحة فرأيت منه ثقلاً، فقلت له: ما لك لعله رابك منا شيء فنُعتِبُك؟ قال: لا، ولنعم حليلة المرء المسلم أنتِ، ولكن اجتمع عندي مال ولا أدري كيف أصنع به. قالت: وما يغمك منه؟ ادع قومك فاقسمه بينهم. فقال: يا غلام علي بقومي. فسألت الخازن: كم قسم؟ قال: أربعمائة ألف".
وانظري كيف اهتمت لغم زوجها، وظنت أنه بسببها، فأجملت في العتبى فأجمل لها في الرد.