.
ولد الشيخ الجليل محمد صديق المنشاوي في صعيد مصر, مركز "المنشأة" محافظة سوهاج سنة 1920م, ونشأ في بيت علم وفضل واهتمام بتلاوة القرآن الكريم وتدارسه. فوالده صديق السيد كان من القراء المجيدين, اشتهر في مصر وله تسجيلات بإذاعة سوريا ولندن ما زالت تبث حتى الآن. وعمه أحمد السيد كان أيضا قارئا مشهورا, رفض القراءة في القصر الملكي بسبب شرطه الذي أعجز الملك وهو أن يمنع المقاهي من تقديم المشروبات الكحولية أثناء إذاعة القرآن من القصر الملكي.
التحق الفتى محمد بكتـّاب القرية, وعمره أربع سنوات, ففاق زملاءه في سرعة الحفظ والاستيعاب, مما لفت إليه نظر معلمه, فأحاطه المعلم "أبو مسلم" بمزيد من الرعاية والاهتمام حتى أتم ختم القرآن الكريم وهو في سن الثامنة لم يتمها. لا نعرف كيف نشكر هذا المعلم؟ فقد ساهم في نمو جناح العندليب وتقوية صوته, حتى استطاع أن يرفرف بعيدا ويشنف أسماع العالم بتغريده وترديده, وله نصيب من أجر الشيخ كلما تراكمت إلى يوم القيامة.
انتقل الفتى إلى القاهرة ليتعلم علوم القرآن ونزل في ضيافة عمه, وعند بلغ الثانية عشرة درس علم القراءات على يد الشيخ محمد مسعود الذي أعجب به وأخذ يقدمه للناس في السهرات, حتى بلغ الخامسة عشرة فاستقل عن شيخه ووالده بعد ذيوع صيته في سوهاج وما حولها.
ظل يقرأ في المساجد والمحافل حتى اشتهر أمره وصار قارئا معتمدا لدى الإذاعة المحلية, حاملا لقب "مقرئ الجمهورية المصرية المتحدة" كما قدمه المذيع من مسجد لالا مصطفى باشا بدمشق الذي قرأ فيه أوائل سورة يوسف, هو مقرئ الجمهورية المصرية المتحدة في زمنه, ومقرئ مصر والعالم في كل زمن قادم.
تزوج من ابنة عمه في سنة 1938 وعمره ثمان عشرة, فأنجب منها ابنين وبنتين, ثم تزوج الثانية بعدما تجاوز الأربعين من مركز "أخميم" بسوهاج وأنجب منها تسعة أولاد, خمسة ذكور وأربع إناث. عاش مع زوجتيه في مسكن واحد يجمعهم الحب والمودة, ويتمنى الناس مصاهرته. توفيت زوجته الثانية أثناء تأديتهما فريضة الحج قبل وفاته بسنة واحدة.
كان الشيخ المنشاوي يجل أقرانه من حفظة كتاب الله تعالى, وتعلق قلبه وأذنه بالاستماع عبر الراديو إلى المقرئين في عصره جميعا دون استثناء, وفي طليعتهم الشيخ محمد رفعت رحمه الله, فقد أحبه كثيرا وتأثر بصوته وتلاواته وحضر بنفسه حفل العزاء ليواسي أسرة الشيخ ومحبيه بما تيسر من كتاب الرحمن.
كان لين الجانب عطوفا على المساكين متواضعا للناس لا يرفض دعوة يتلقاها لإسعاد المدعوين بالقراءة, بل يجدها فرصة لإبلاغهم كلمة ربه وهو راض سعيد. لبى دعوة رؤساء بعض الدول للقراءة في الخارج, كدعوة الرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو, التي لباها برفقة نظيره الشيخ عبدالباسط عبدالصمد, فبكى أثناء تلاوته لبكاء الجمهور المتواصل. وقد منحه سوكارنو وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى, وحصل على وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية من سوريا.
لكنه في المقابل, رفض تلبية دعوة لافتتاح حفل يحضره الرئيس جمال عبدالناصر, لأن الرسول وكان وزيرا قال له: ألا يكون لك الشرف حين تقرأ بين يدي الرئيس..؟ فأجاب الشيخ: ولم لا يكون هذا الشرف لعبدالناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت المنشاوي؟ ورفض أن يلبي الدعوة قائلا: "لقد أخطأ عبد الناصر حين أرسل إلي أسوأ رسله", وهكذا يعز كتاب الله تعالى أهله وحافظيه. لم تكرمه الحكومة المصرية, وإن كرمت والده بعد وفاته عام 1985م فمنحته وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية.
أصيب الشيخ رحمه الله بدوالي المريء منذ سنة 1966 فنصحه الأطباء بالراحة وعدم إجهاد حنجرته, إلا أنه استمر في القراءة بصوت جهوري, وظل مصطحبا كتاب ربه في أسفاره وإقامته حتى اختاره الرحيم لجواره الكريم, فالتحق به يوم 20/6/1969م, وعمره دون الخمسين. وبموته خسر العالم درة القراء وحنجرة من الجوهر بل خسروا الحنجرة السماوية.
ترك الشيخ وراءه ذرية صالحة, فكل أولاده يحفظون القرآن كاملاً, ورث منهم اثنان حلاوة صوته ونداوته, صلاح وعمر, درسا علوم القراءات وشهد لهما الكثير من المتخصصين بالبراعة والإتقان. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
(2)
شيخ القراء وسادتهم
خير مزامير الأواب التالي داوود
أروع صوت في الأرض حزين
أتمنى أن أسمعه فرحانا في الجنة
وبجانبه حور العين..
الشيخ محمد صديق مزمار من مزامير آل داود, أروع صوت في الأرض شفافية وحزنا, من مِن محبيه لا يتمنى أن يسمعه فرحانا في الجنة وحوله حور العين؟ كتبت فيه مقطوعة وجدانية أخرى, تقول أبياتها: "صوت شجي طروب/ يتدفق رويدا, رويدا/ من نهر في أعلى الجنة/ فيهتز الصخر في خشوع".
نعم, هو هكذا وأكثر, صوت شجي طروب متدفق من الفردوس يهز القلوب المتحجرة إذا أقبلت على تلاوته بنوافذ مفتوحة وروح طليقة أبية حرة. كان الشيخ رحمه الله دائم الصحبة لكتاب ربه, يتغذى روحه بالقرآن ويستشفي قلبه بآياته, ويستضيء دربه وجوانحه بنوره الذي يشع سكينة وطمأنينة.
لاحظت خلال استماعي الطويل أن الشيخ يبرع في التلاوة, غاية البراعة والخشوع, إذا كانت الآيات تتعلق بالقرآن نفسه تلاوة وتدبرا في كل وقت وبخاصة في التهجد, كغذاء للروح وشفاء للبدن, وكذا إذا تعلقت بأسماء الله الحسنى وتعظيم الله تعالى وتمجيده وتوحيده, ومنها ما يتعلق بقصة مريم والسيد المسيح, وقيل لي في ذلك إن الشيخ كان يُسر له بعض الحاضرين إذا كان فيهم أقباط بأن يقرأ آيات تتعلق بمريم والمسيح عليهما السلام, وقد أسلم بسبب تلاواته كثيرون, أخبرني بذلك طبيب مصري صعيدي من قرية مجاورة لقرية "منشأة" وليس هذا ببعيد لأنك تحس بإخلاص الشيخ في القراءة وفي ذهنه الدعوة إلى الله, تحس به يقرأ وأمام عينيه لوحة مكتوب فيها "إنما الأعمال بالنيات" وتحتها "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" فرحمة الله تعالى عليه وعلى والديه.
كذلك لاحظت تأثره وحزنه حين يتلو آيات تتعلق بالنساء, كما في سورة الطلاق وأواخر التحريم, قصة زوجة لوط وزوجة فرعون. وهذا يعني أن الشيخ رحمه الله تعالى كان يهتم بالمشاكل الاجتماعية للناس ويتأثر لأحوال المجتمع, ولو رأى اليوم ما ينشر في المدونات المصرية من امرأة "عايزة تتجوز" ومن رجل "عايز يجوز" وآخر "مش عايز" فضلا عن "أوقفوا التعذيب" وغيرها من المدونات لبلغ به التأثر منتهاه. إن القرآن ليرقق القلب لدرجة لا يتصورها من لم يعرفه ويعايشه.
ولد الشيخ الجليل محمد صديق المنشاوي في صعيد مصر, مركز "المنشأة" محافظة سوهاج سنة 1920م, ونشأ في بيت علم وفضل واهتمام بتلاوة القرآن الكريم وتدارسه. فوالده صديق السيد كان من القراء المجيدين, اشتهر في مصر وله تسجيلات بإذاعة سوريا ولندن ما زالت تبث حتى الآن. وعمه أحمد السيد كان أيضا قارئا مشهورا, رفض القراءة في القصر الملكي بسبب شرطه الذي أعجز الملك وهو أن يمنع المقاهي من تقديم المشروبات الكحولية أثناء إذاعة القرآن من القصر الملكي.
التحق الفتى محمد بكتـّاب القرية, وعمره أربع سنوات, ففاق زملاءه في سرعة الحفظ والاستيعاب, مما لفت إليه نظر معلمه, فأحاطه المعلم "أبو مسلم" بمزيد من الرعاية والاهتمام حتى أتم ختم القرآن الكريم وهو في سن الثامنة لم يتمها. لا نعرف كيف نشكر هذا المعلم؟ فقد ساهم في نمو جناح العندليب وتقوية صوته, حتى استطاع أن يرفرف بعيدا ويشنف أسماع العالم بتغريده وترديده, وله نصيب من أجر الشيخ كلما تراكمت إلى يوم القيامة.
انتقل الفتى إلى القاهرة ليتعلم علوم القرآن ونزل في ضيافة عمه, وعند بلغ الثانية عشرة درس علم القراءات على يد الشيخ محمد مسعود الذي أعجب به وأخذ يقدمه للناس في السهرات, حتى بلغ الخامسة عشرة فاستقل عن شيخه ووالده بعد ذيوع صيته في سوهاج وما حولها.
ظل يقرأ في المساجد والمحافل حتى اشتهر أمره وصار قارئا معتمدا لدى الإذاعة المحلية, حاملا لقب "مقرئ الجمهورية المصرية المتحدة" كما قدمه المذيع من مسجد لالا مصطفى باشا بدمشق الذي قرأ فيه أوائل سورة يوسف, هو مقرئ الجمهورية المصرية المتحدة في زمنه, ومقرئ مصر والعالم في كل زمن قادم.
تزوج من ابنة عمه في سنة 1938 وعمره ثمان عشرة, فأنجب منها ابنين وبنتين, ثم تزوج الثانية بعدما تجاوز الأربعين من مركز "أخميم" بسوهاج وأنجب منها تسعة أولاد, خمسة ذكور وأربع إناث. عاش مع زوجتيه في مسكن واحد يجمعهم الحب والمودة, ويتمنى الناس مصاهرته. توفيت زوجته الثانية أثناء تأديتهما فريضة الحج قبل وفاته بسنة واحدة.
كان الشيخ المنشاوي يجل أقرانه من حفظة كتاب الله تعالى, وتعلق قلبه وأذنه بالاستماع عبر الراديو إلى المقرئين في عصره جميعا دون استثناء, وفي طليعتهم الشيخ محمد رفعت رحمه الله, فقد أحبه كثيرا وتأثر بصوته وتلاواته وحضر بنفسه حفل العزاء ليواسي أسرة الشيخ ومحبيه بما تيسر من كتاب الرحمن.
كان لين الجانب عطوفا على المساكين متواضعا للناس لا يرفض دعوة يتلقاها لإسعاد المدعوين بالقراءة, بل يجدها فرصة لإبلاغهم كلمة ربه وهو راض سعيد. لبى دعوة رؤساء بعض الدول للقراءة في الخارج, كدعوة الرئيس الأندونيسي أحمد سوكارنو, التي لباها برفقة نظيره الشيخ عبدالباسط عبدالصمد, فبكى أثناء تلاوته لبكاء الجمهور المتواصل. وقد منحه سوكارنو وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى, وحصل على وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية من سوريا.
لكنه في المقابل, رفض تلبية دعوة لافتتاح حفل يحضره الرئيس جمال عبدالناصر, لأن الرسول وكان وزيرا قال له: ألا يكون لك الشرف حين تقرأ بين يدي الرئيس..؟ فأجاب الشيخ: ولم لا يكون هذا الشرف لعبدالناصر نفسه أن يستمع إلى القرآن بصوت المنشاوي؟ ورفض أن يلبي الدعوة قائلا: "لقد أخطأ عبد الناصر حين أرسل إلي أسوأ رسله", وهكذا يعز كتاب الله تعالى أهله وحافظيه. لم تكرمه الحكومة المصرية, وإن كرمت والده بعد وفاته عام 1985م فمنحته وسام الاستحقاق من الطبقة الثانية.
أصيب الشيخ رحمه الله بدوالي المريء منذ سنة 1966 فنصحه الأطباء بالراحة وعدم إجهاد حنجرته, إلا أنه استمر في القراءة بصوت جهوري, وظل مصطحبا كتاب ربه في أسفاره وإقامته حتى اختاره الرحيم لجواره الكريم, فالتحق به يوم 20/6/1969م, وعمره دون الخمسين. وبموته خسر العالم درة القراء وحنجرة من الجوهر بل خسروا الحنجرة السماوية.
ترك الشيخ وراءه ذرية صالحة, فكل أولاده يحفظون القرآن كاملاً, ورث منهم اثنان حلاوة صوته ونداوته, صلاح وعمر, درسا علوم القراءات وشهد لهما الكثير من المتخصصين بالبراعة والإتقان. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
(2)
شيخ القراء وسادتهم
خير مزامير الأواب التالي داوود
أروع صوت في الأرض حزين
أتمنى أن أسمعه فرحانا في الجنة
وبجانبه حور العين..
الشيخ محمد صديق مزمار من مزامير آل داود, أروع صوت في الأرض شفافية وحزنا, من مِن محبيه لا يتمنى أن يسمعه فرحانا في الجنة وحوله حور العين؟ كتبت فيه مقطوعة وجدانية أخرى, تقول أبياتها: "صوت شجي طروب/ يتدفق رويدا, رويدا/ من نهر في أعلى الجنة/ فيهتز الصخر في خشوع".
نعم, هو هكذا وأكثر, صوت شجي طروب متدفق من الفردوس يهز القلوب المتحجرة إذا أقبلت على تلاوته بنوافذ مفتوحة وروح طليقة أبية حرة. كان الشيخ رحمه الله دائم الصحبة لكتاب ربه, يتغذى روحه بالقرآن ويستشفي قلبه بآياته, ويستضيء دربه وجوانحه بنوره الذي يشع سكينة وطمأنينة.
لاحظت خلال استماعي الطويل أن الشيخ يبرع في التلاوة, غاية البراعة والخشوع, إذا كانت الآيات تتعلق بالقرآن نفسه تلاوة وتدبرا في كل وقت وبخاصة في التهجد, كغذاء للروح وشفاء للبدن, وكذا إذا تعلقت بأسماء الله الحسنى وتعظيم الله تعالى وتمجيده وتوحيده, ومنها ما يتعلق بقصة مريم والسيد المسيح, وقيل لي في ذلك إن الشيخ كان يُسر له بعض الحاضرين إذا كان فيهم أقباط بأن يقرأ آيات تتعلق بمريم والمسيح عليهما السلام, وقد أسلم بسبب تلاواته كثيرون, أخبرني بذلك طبيب مصري صعيدي من قرية مجاورة لقرية "منشأة" وليس هذا ببعيد لأنك تحس بإخلاص الشيخ في القراءة وفي ذهنه الدعوة إلى الله, تحس به يقرأ وأمام عينيه لوحة مكتوب فيها "إنما الأعمال بالنيات" وتحتها "لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم" فرحمة الله تعالى عليه وعلى والديه.
كذلك لاحظت تأثره وحزنه حين يتلو آيات تتعلق بالنساء, كما في سورة الطلاق وأواخر التحريم, قصة زوجة لوط وزوجة فرعون. وهذا يعني أن الشيخ رحمه الله تعالى كان يهتم بالمشاكل الاجتماعية للناس ويتأثر لأحوال المجتمع, ولو رأى اليوم ما ينشر في المدونات المصرية من امرأة "عايزة تتجوز" ومن رجل "عايز يجوز" وآخر "مش عايز" فضلا عن "أوقفوا التعذيب" وغيرها من المدونات لبلغ به التأثر منتهاه. إن القرآن ليرقق القلب لدرجة لا يتصورها من لم يعرفه ويعايشه.